يعتبر النموذج الفرنسي في الإدارة والاقتصاد، في الفكر والسياسة والأدب والفن.. «صنماً» في المغرب، مع أن التاريخ أثبت أننا في مجالات كثيرة أخطأنا في اختيار هذا النموذج، وأقوى الأدلة على صواب هذا الرأي هو أزمة نظامَي التعليم والتقاعد في فرنسا اليوم وكيف أن عدواها انتقلت إلى المغرب، مع فارق هو أن العقلية الفرنسية تبدع، بينما العقلية المغربية تتّبع.. وما يهمنا في هذا القول هو مناقشة النموذج الثقافي.. كما هو معلوم، فإن الساحة الثقافية في المغرب ما تزال تقليدية في تصنيفاتها، نخبة حداثية أو تقدمية، كما تسمي نفسها، في مقابل نخبة محافظة وهوياتية، ولا نخبة ثالثة.. فرغم كل التناقضات في المواقف وأشكال الصدام، «الممغرَبة» في أحايين كثيرة، فإن هاتين النخبتين تلتقيان في هوس ثقافي اسمه ما بعد الحداثة، فالنخبة المحافظة ترى في مراجعة مفاهيم العقلانية والتقدم والموضوعية والواقع وغيرها انتصارا لعقائد تراثية تمتح من الأصالة والخصوصية والهوية، لذلك يستهويها جدا أن تشرح وتفسر وتلخص أطروحات فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة، بمنطق «شهد شاهد من أهلها».. شهود غربيون يقرون ب»فشل مشروع الحداثة»، مع أن «ألفباء» الحداثة، كما تظهرها مثلا رواية أمبرتو إيكو «اسم الوردة»، تبين بوضوح شديد أن الغرب في القرون السالفة كان ينظر إلى ثقافة المسلمين على أنها ثقافة كفّار، تماما كما نحن عليه اليوم، لكنه عندما ميّز بين الكافر وثقافة الكافر وترك الأول وأخذ الثاني، بدأت نهضته.. ألم يكن هذا هو الدرس نفسُه الذي برع فيه ابن رشد؟!.. ونخبة أخرى ترى العصرنة الفكرية من خلال القفز من موقف إلى نقيضه، فقط لتظهر بمظهر المعاصرة، فتعتبر ديكارت وكانظ وهيغل... فلاسفةَ ميتافزيقا، وترمي تراثا كونيا ما يزال سبر أغواره تحديا للغرب نفسه، فكيف بنا ونحن نقرر في أمر هؤلاء ونحن لم نجرب أن نفكر ببداهة ديكارت وعقلانية كانط وجدلية هيغل!.. وخطأ كلتا النخبتين هو أن مشروع ما بعد الحداثة مشروع في الحداثة نفسها، هو سؤال عن الحداثة، فعبر السؤال عنها ونقدها تتشكل رؤية أخرى ذات صلة.. يخطئ من لم يرَ هذه الصلة بين الحداثة وما بعدها، هذا في الغرب المشبع بالقيّم الحديثة، أما عندنا فقصة وحكاية تختزن فصولها خيباتنا ونكساتنا ونحن نتهجّى الحداثة... لذلك يتعامل الأستاذ عبد الله العروي بكثير من التحفظ مع المشاريع الفلسفية التي تعتمل في الساحة الفكرية المغربية، والتي تتخذ من «ما بعد الحداثة» نموذجا مفاهيميا ولغويا، فبالنسبة إليه يبدو هذا الاهتمام «ترفا فكريا»، لأنه غير معني ببيئة ثقافية وفكرية وسياسية تنتمي إلى ما قبل الحداثة، فمظاهر التخلف في كل مكان: في الاقتصاد والسياسة، في الثقافة والتربية، في الإدارة وفي الذهنيات.. يكفي أن يزور أي منا مستعجلاتنا وإداراتنا ومستشفياتنا ويتجول في شوراعنا ليجد الشواهد القطعية على أن انتماءنا على مستوى التاريخ لا يمكن تصنيفه إلا ضمن مجتمعات ما قبل الحداثة.. والسؤال هو: هل يحق لنا أن ندافع عن قيّم تنتقد الحداثة كانتقاد الأوربيين لها، وهم الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون؟ هل يحق لنا أن نغمض أعيننا على ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تنتمي إلى ما قبل الحداثة في أكثر التصنيفات تفاؤلا وندّعي وصلا بما بعد الحداثة؟ أليست هذه سكيزوفرينيا؟!.. هكذا أصبح الاهتمام بما بعد الحداثة في المغرب أشبهَ بالهوس الثقافي الجماعي، فتسونامي ستينيات القرن الماضي في فرنسا وصل لتوه إلى عقول مثقفينا، عند البعض ربما لم نوفق في اختيار النموذج، لكن النموذج الفرنسي، حتى في تفاصيله المحلية، يسكننا على نحو صنمي، فكل ذي صيحة في فرنسا، المشبعة بالقيّم الحديثة، يجد له «شيعة» بين ظهرانينا، ونحن المشبعين، في المقابل، بقيّم ما قبل الحداثة.. يحملون صيحته على شاكلتهم ويقولون في هذه الصيحة، أو يتقولون على الأصح، ما لم يخطر ببال أصحابها، و»إن هم إلا يظنون».. هكذا نجد من يعتبر خربشاته بالخطوط والألوان «تجريدا» أو «سوريالية»، وفي الشعر أيضا نجد من يعتبر المفرقعات اللغوية والرجم بالكلمات على عواهنها «قصيدة نثرية» أو «أدونيسية»، والأمر نفسه في الرواية، إذ نجد كتَبة من نوع «طيّابات الحمام» لا يترددون في تبرير البذاءة والسوقية بكونها «رواية جديدة».. وهكذا دواليك في الأشكال التعبيرية الأخرى، كالسينما والمسرح.. إنه لأمر مُحيّر.. أن يردد مثقفونا أطروحات هربريت ماركيوز «الإنسان ذو البعد الواحد»، المستلب بالعقل الأداتي ونحن ما زلنا نستورد الأداة، بل وما زلنا على دهشة آبائنا تجاهها.. فننتقد إنسانا لم يتحقق قط في بلادنا، لندافع عن آدميته المتنوعة والمختلفة، بل إن منا من ينعون إلينا «موت الإنسان»، مع أن ولادته عندنا مؤجلة إلى حين!.. وننتقد مع ألان تورين الحداثة ونُطعم أطروحاته بفسيفساء من أطروحات أخرى لشبنغلر وهايدغر وهوسرل وهوركهايمر.. مع أن مظاهر ما قبل الحداثة تلُفّنا أينما ولّينا أوجُهَنا، ومنا أيضا من يرددون مع فيرابند عنوان كتابه «وداعا يا عقل»، ونحن لم نجرب بعدُ فضيلة أن نفكر فيه بشكل منهجي سليم..