استثمارات، تجارة، قروض، دعم دبلوماسي وتعاون مشترك... فرنسا والمغرب يجمعهما تعاون لا مثيل له. ويتضح هذا الأمر بجلاء في تنوع وأهمية المبادلات القائمة بين البلدين. «مبادرة الحكم الذاتي المغربية هي الحل الذي يتوجب السير في اتجاهه». تصريح لمارتين أوبري، زعيمة الحزب الاشتراكي الفرنسي، لم يمر دون أن يثير الانتباه على هامش الزيارة التي قامت بها للمغرب قبل نحو شهرين من أجل الترويج لحملة فرانسوا هولاند، المرشح الاشتراكي للانتخابات الرئاسية الفرنسية. وكان واضحا أن الكاتبة الأولى للحزب الاشتراكي طمأنت مضيفها بشأن هذا الملف الاستراتيجي جدا بالنسبة إلى المغرب، من خلال تأكيدها على أن تغيير اسم الرئيس لن يغير شيئا في الموقف الفرنسي من هذه القضية. بعد أيام قليلة عن زيارة مارتين أوبري للمغرب، وتحديدا في 28 مارس الماضي، نظم بالرباط لقاء بين المستثمرين الفرنسيين والمغاربة، بمبادرة من نادي رؤساء مقاولات فرنسا والمغرب. وكان هدف اللقاء هو تمكين عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الجديد المحافظ، من مقابلة المستثمرين الفرنسيين. في ذلك اللقاء أيضا بعثت رسالة واضحة خالية من أي غموض: المغرب سيظل أرضا مضيافة للمقاولات الفرنسية. ويتبين من كل هذا أن أمام المغرب وفرنسا مستقبلا من العلاقات الجيدة، بصرف النظر عن التحولات التي يعرفها كل بلد. علاقات فريدة علاقات فريدة تجمع المغرب وفرنسا. «نحن شركاء»، يقول يوسف العمراني، الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون. ويثير هذا الدبلوماسي، الذي سبق أن تولى منصب الأمانة العامة للاتحاد من أجل المتوسط، في الآن ذاته «المصالح المتبادلة» و»القيم المشتركة» و»ثقة كبرى متبادلة». ويضيف العمراني «لا تقوم علاقاتنا فقط على الراوبط التي توحد دولتينا، وإنما أيضا على شبكات تكونت عبر الزمن، بنيت على القرب والصداقة». وفرنسا بلد متوغل للغاية في اقتصاد المملكة. إذ أن مستثمرا أجنبيا من أصل اثنين يكون فرنسيا. وتشغل المقاولات الفرنسية الناشطة في المغرب 120 ألف مغربي. إنه البلد الوحيد الذي يتزايد فيه الاستثمار الفرنسي إلى جانب الصين. كما أن فرنسا «تمول» المغرب بنحو 40 في المائة من عائدات السياحة و40 في المائة كذلك من تحويلات الجالية المغربية المقيمة بالخارج. وتعتبر المملكة أيضا أول مستفيد من المساعدات الفرنسية ذات الطابع العمومي. وفي هذا الإطار، تجب الإشارة إلى ميزة خاصة: بالإضافة إلى حرصها على تمويل المشاريع بشكل دوري ومنتظم، تعمل الوكالة الفرنسية للتنمية على مصاحبة الاختبارات المالية والمخططات القطاعية للبلاد، خصوصا في الصناعة والفلاحة. وتمنح قروضا للدولة المغربية والفاعلين العموميين كذلك. وكانت باريس منحت دعمها مؤخرا للوكالة المكلفة بتنزيل مخطط الطاقات المتجددة «ماسن»، وكذلك للمكتب الشريف للفوسفاط في إطار برنامج معالجة المياه العادمة وتطوير تقنية تحلية مياه البحر من أجل المحافظة على الفرشة المائية. وقد انتقلت المساعدات العمومية الفرنسية للمغرب بين سنتي 2000 و2010 من 100مليون أورو إلى 363 مليون أورو. وقد حطمت رقما قياسيا جديدا في سنة 2011 بوصولها إلى 541 مليون أورو، علما بأن جزءا هاما من هذه القروض تم تسخيرها لتكوين الموارد البشرية. ويشكل غياب حاجز اللغة، بشكل بديهي، أحد أبرز عوامل هذا القرب. إذ إلى حدود اليوم، لا تزال فرنسا تستقبل 61 في المائة من إجمالي الطلبة المغاربة الراغبين في استكمال دراستهم في الخارج. ويصل عددهم إلى 300 ألف، ويتقدمون الطلبة الأجانب، بمن فيهم الصينيون. وفي المقابل، توجد في المملكة 30 مدرسة فرنسية، نصف مجموع تلاميذها البالغ عدهم 300 ألف مغاربة، بما في ذلك ثانوية ديكارت بالرباط وثانوية ليوطي بالدار البيضاء وفيكتور هيغو بمراكش. ومن أجل الاستجابة للطلب المتنامي على التعليم الفرنسي بالمغرب، سبق لفرنسا أن اقترحت على السلطات المغربية فتح أقسام دولية في المؤسسات التعليمية العمومية بإمكانها أن تمنح شهادة باكلوريا تسمح لحامليها بالولوج إلى التعليم العالي في جميع الدول الأوربية. ولا يزال المشروع قيد الدراسة. لكن هذا النوع من التعاون قائم في الوقت الراهن في التعليم العالي. إذ أن أزيد من 150 مهندسا يحصلون سنويا على شهادات مماثلة، ولا سميا في التجارة والتدبير والهندسة. وثمة أيضا نحو 60 ألف شاب يتعلمون اللغة الفرنسية في المؤسسات التابعة للمعهد الثقافي الفرنسي بالمغرب. وهذه اللغة المتبادلة تسمح بميلاد تعاون ثقافي لا مثيل له في كل بقاع العالم. المعهد الثقافي الفرنسي بالمغرب، الذي يتولى أيضا إنتاج حفلاته وندواته، ويصل عددها سنويا إلى ستين، يشارك في العديد من التظاهرات ويسجل حضوره في بعض الأحداث. «نسعى إلى مواكبة الشأن الثقافي المغربي عبر تفضيل الأنماط الفنية التي تتوجه إلى الشباب» يقول بيرنار كوملان، مدير المعهد الثقافي الفرنسي بالرباط. فهل سنظل هكذا؟ ليس مؤكدا. الطبقات المتوسطة الجديدة، أقل ميولا للفرنسية وأثر تعلقا بالعربية، ولا تربطها العلاقة ذاتها مع فرنسا. وبما أن قربا من هذا القبيل لا يمكن أن يستمر بدون التبادل الإنساني والدائم بين البلدين، فإن السفارة الفرنسية لدى المغرب، التي تعتبر الثانية من حيث الأهمية على الإطلاق بعد سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية، تشغل ما لا يقل عن 350 موظفا ومستخدما متعاقدا تؤدى رواتبهم من خزينة الدولة الفرنسية. وتمنح القنصليات الفرنسية الست الموجودة بالمغرب سنويا 160 ألف تأشيرة دخول إلى الأراضي الفرنسية، وعبرها إلى الدول الأوربية، وتسمح لأصحابها بالقيام بأسفار عديدة موزعة على مدة طويلة. من جهتها، تشير السفارة الفرنسية إلى المغرب يوجد به نحو 100 ألف فرنسي، مقيمين وسياحا. عدد الفرنسيين المقيمين بالمغرب يتراوح بين 70 و80 ألف فرنسي، 40 في المائة منهم يحملون الجنسيتين المغربية والفرنسية، وهناك أيضا مابين 20 ألفا و30 ألف سائح فرنسي يفدون يوميا على المغرب. ويتصدر الفرنسيون قائمة السياح الوافدين سنويا على المغرب. إذ وصل عددهم في سنة 2010 إلى 1.8 مليون سائح من أصل إجمالي السياح الوافدين على المغرب البالغ عددهم 9.3 ملايين سائح، حسب الإحصائيات الرسمية المغربية. يشكل هذا النسيج من العلاقات الشخصية العميقة تقاربا حقيقيا. ويستحيل إيجاد مسؤول مغربي في موقع قرار لا يقضي من حين لآخر جزءا من إجازته في فرنسا. كما أن المغرب يتقدم بوضوح لافت قائمة البلدان التي يتوجه إليها، بانتظام ومواظبة، الفاعلون السياسيون الفرنسيون على اختلاف توجهاتهم وأحزابهم وتناقض إيديولوجياتهم. كما أن هناك شخصيات فرنسية عديدة رأت النور هنا في المغرب، وكثير منها يقضي به إجازاته. معرفة دقيقة في مارس الماضي، حظيت مارتين أوبري، الكاتبة الأولى للحزب الاشتراكي الفرنسي، باستقبال من قبل الملك محمد السادس وعبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة. ولم ينس العاهل المغربي، بعد التدريب الذي قضاه في رحاب اللجنة الأوربية ببروكسيل تحت إشراف جاك دولور، والد مارتين أوبري. في تلك الفترة، كان والده الملك الراحل الحسن الثاني استضاف أسرة دولور جميعها، بمن فيهم مارتين، التي كانت وقتها وزيرة. ونادرا ما تزور أوبري المغرب دون أن تحظى باستقبال من قبل القصر الملكي. وكان الملك الراحل الحسن الثاني اعتاد قول العبارة التالية: «نعرفكم أكثر مما تعرفوننا». يوظف المغرب بذكاء علاقاته الوثيقة مع فرنسا والفرنسيين وثقافتهم. إذ عرف المغرب كيف يشكل شبه علاقات من «الأصدقاء» تجاوزت دائرتها حدود الحياة السياسية، حتى أصبحت تشكل جماعة ضغط حقيقية. فرنسا هي الأخرى تستفيد من هذا الوضع. فالمغرب هو شريك تجاري ممتاز تمثل وارداته مليار أورو من الميزان التجاري الفرنسي، وهو أيضا شريك يعتبر دعمه حيويا على المستوى الدولي. وبدا هذا الأمر بجلاء أثناء المصادقة على القرار 1973 بمجلس الأمن الولي التابع للأمم المتحدة، الذي أعطى الضوء الأخضر للتدخل العسكري في ليبيا، بالإضافة إلى النقاش الدائر حول الملف السوري في الهيئة الأممية ذاتها. تبقى إذن معرفة الكيفية التي استطاع بها المغرب وفرنسا نسج هذه العلاقات. أكيد أن المغرب لم يتم استعماره على شاكلة دول أخرى. فرغم أنه عانى من الغطرسة الاستعمارية، ولا سيما غداة الحرب العالمية الثانية، بعد اشتداد شوكة الحركة الوطنية المغربية، ثم أثناء نفي السلطان محمد الخامس في سنة 1953، فإنه، بفضل السياسة الإدارية غير المباشرة التي اختارها الجنرال ليوطي، أول مقيم عام فرنسي بالمغرب، أفلحت فرنسا، هنا في المغرب، أكثر من أي مكان في العالم، من الحفاظ على الثقافة والتقاليد المحلية. وقد لعب التاريخ أيضا دورا كبيرا في هذا المجال، ذلك أن المغرب يعتبر الدولة العربية الوحيدة التي استعمرتها فرنسا ولم تخضع لسيطرة الإمبراطورية العثمانية. إذ حينما وصل ليوطي إلى المغرب، عشية الحرب العالمية الأولى، ألفاه دولة محكومة منذ القرن السابع عشر من قبل العلويين بدون انقطاع. ومن هنا انبثق الإعجاب الفرنسي بهذه «الدولة العريقة» المختلفة كليا عن بقية «المستعمرات». لقد كان الفرنسيون يحلمون بتحول المغرب إلى كاليفورنيا جديدة. أما المغاربة فينظرون إلى تلك الفترة مثل قوسين فتحا في تاريخهم العريق. وتدين الخصوصية التي تتمتع بها العلاقات المغربية الفرنسية كذلك للإرث الذي خلفه الملك الراحل محمد الخامس. ففي 1939، أطلق نداء إلى رعاياه من أجل نصرة فرنسا. وغداة الاستقلال، اختار محمد الخامس طي صفحة سنوات المنفى من أجل بلورة علاقات جديدة مع القوة الاستعمارية السابقة، التي كان يرى فيها حليفا يعول عليه في مواجهة إسبانيا، التي كانت لا تزال تستعمر وقتها مناطق من المغرب. لكن هذا العامل لم يكن الدافع الوحيد الذي جعل محمد الخامس يتخذ هذا القرار. ذلك أنه كان رفيق التحرير بالنسبة إلى الجنرال ديغول. وهذا امتياز ولقب لم يمنح سوى لشخصيتين أجنبيتين. الشخصية الثانية هي وينستون تشرشل.