تحتفل الشغيلة المغربية، على غرار نظيرتها، في مختلف بقاع العالم باليوم العالمي للشغل. وهذه السنة سيكون للاحتفال طعم خاص في ظل حكومة عبد الإله بنكيران، التي أثارت كثيرا من الجدل منذ أول يوم لتنصيبها، وهي التي خرجت أسابيع قليلة بعد تنصيب أعضائها بمشروع قانون للإضراب، الغاية منه كما تقول تقنين هذا الحق الذي تكفله جميع المواثيق الدولية وتضمنه دساتير المملكة، وأيضا من أجل القطع مع الفوضى التي تحكمه. كما أعادت التلويح بتفعيل آلية الاقتطاع من أجور المضربين. أسلوب تعاطي الحكومة مع هذا الملف الشائك أثار جدلا واسعا، وسرعان ما رأى فيه كثير من المتتبعين تراجعات كثيرة عن مكاسب استلزمت كثيرا من التضحية ونضال العمال لسنوات من أجل تحقيقها، وأنه لا مجال اليوم للتراجع عنها. يرمي مشروع قانون الإضراب الذي تسعى الحكومة إلى إقراره قبل متم السنة الجارية، حسب ديباجته، إلى سد هذا الفراغ التشريعي وتحقيق أكبر قدر من التوازن فيعلاقة الشغل من خلال تحديد شروط وشكليات ممارسة هذا الحق وحمايته. وتحقيقا لهذا الغرض،يعرّف المشروع مفهوم حق الإضراب ويضع المبادئ الأساسية التيتضبط ممارسته، بما بالنسبة للأجير المُضرِب وحرية العمل بالنسبة للأجير غير المُضرِب ويحافظ على سلامة المؤسسات وممتلكاتها،ويضمن حدا أدنى من الخدمة في المرافق والمؤسسات العمومية حفاظا على المصلحة العامة.كمايحدد التزامات الأطراف والإجراءات الزجرية الممكن اتخاذها في حالة الإخلال بهذه الالتزامات. بنكيران ومن معه.. منذ الأسابيع الأولى لتنصيبه رئيسا للحكومة، كان عبد الإله بنكيران واضحا فيما يتعلق بالموضوع، خاصة مع توالي الإضرابات، التي لم يسلم منها أي قطاع في المملكة. ولعل ما صرح به من أن «الحكومة مقتنعة تماما بأن القانون المنظم الإضراب يجب أن يخرج إلى حيز الوجود وستقوم بذلك»، وتأكيده على أنه «ينبغي احترام الحق الدستوري في الإضراب ولكن أيضا الحق في العمل»، دليل على أن الرجل ليس مستعدا لتكرار تجربة الحكومة السابقة التي أنهكتها كثرة الإضرابات بدليل الأرقام، إذ تم تسجيل في سنة 2011 وحدها ضياع أزيد من 300 ألف يوم عمل، بما يعنيه ذلك من تأثيرات سلبية على أداء الاقتصاد الوطني ونسب النمو وأيضا تأثير ذلك على سمعة المغرب كبلد يفتح ذراعيه للمستثمرين الأجانب ويسوق فكرة أنه بلد اقتصادي «آمن». بنكيران الذي كان يتحدث في لقاء نظمه الاتحاد العام لمقاولات المغرب بشراكة مع حركة الشركات الفرنسية الدولية، أضاف أن الحكومة الجديدة تحافظ على التوجهات الاقتصادية نفسها وتعمل على تعزيزها٬ بما في ذلك تشجيع الاستثمارات٬ إلا أنها «ستبذل مجهودها للقطع مع تراكمات سلبية لعشرات السنين٬ بهدف جعل الإدارة المغربية في خدمة المواطن والمستثمر٬ فضلا عن إصلاح القضاء في اتجاه جعله سليما وسريعا وفعالا». تصريحات بنكيران بخصوص تقنين الإضراب تتماهى مع ما صرح به أكثر من مسؤول حكومي في فريقه، وخاصة المنتمين إلى حزبه، ومن ضمنها ما قاله مصطفى الخلفي وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة بأن الحكومة حصل لديها اقتناع بعدم إمكانية استمرار الجمع بين ممارسة الحق في الإضراب وبين تلقي الأجر خلال الأيام التي تم فيها الإضراب، مؤكدا عزم الحكومة على سن قانون خاص بتنظيم حق الإضراب، يكون نتاج حوار مع مختلف الفاعلين والمعنيين، وينسجم مع المعايير الدولية المتعلقة بممارسة الحرية النقابية. الخلفي، قال أيضا، إن تنظيم حق الإضراب مرتبط بسير المرافق العمومية، مذكرا بمضامين الفصل 154 من الدستور، الذي ينص على قواعد تحكم سير هذه المرافق، ومنها ضمان الاستمرار في أداء الخدمات. وينص الفصل 154 على أنه «يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والاستمرارية في أداء الخدمات، حيث تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور». الأجر مقابل العمل النقاش المفتوح حول مشروع قانون الإضراب لم ينحصر فقط في ضرورة إخراج إطار منظم لشروط وكيفيات اللجوء إلى الإضراب كحق تطالب النقابات بعدم المس به، وتسعى الحكومة إلى الحد من المبررات غير المعقولة التي تحكم الداعين إليه، لكنه امتد إلى إثارة مواضيع خلافية ستكون لها تبعات كثيرة في حال إصرار الحكومة على تنفيذها، بمنطق إعمال القانون. ولعل الاقتطاع من أجر المضربين سيكون القشة التي ستقصم ظهر البعير، ليس فقط في علاقة المركزيات النقابية بالحكومة، بل أيضا بين أعضاء التحالف الحكومي أنفسهم، بدليل أن كثيرا من أعضاء الحكومة لا يشاطرون بنكيران وحوارييه المنطق الذي يقول بضرورة الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل. وهي الآلية التي تسعى الحكومة الحالية إلى إعادة تفعيلها سيرا على نهج حكومة عباس الفاسي، مما أثار في حينه كثيرا من ردود الفعل المستهجنة. إذ اعتبرت النقابات أن الاقتطاع من أجور المضربين هو مس بالحق في الإضراب المكفول بمقتضى الدستور. مناصرو فكرة ربط الأجر بالعمل وضرورة الاقتطاع من الأجر مقابل إضراب الأجراء يثيرون مشكل الأضرار الكبيرة التي يخلفها توالي أيام الإضراب على المقاولات، وهو ما كان سببا في إفلاس العديد منها، دون إغفال تأثير ذلك على الاقتصاد الوطني. وسبق لمصطفى الخلفي أن أشار إلى «أن الحكومة مقتنعة بعدم إمكانية استمرار الجمع بين ممارسة الحق في الإضراب وبين تلقي الأجر خلال الأيام التي تم فيها الإضراب»، معتبرا أن هذا الأمر يصبح أكثر إلحاحا «في الحالات التي تكون فيها لهذا الإضراب نتائج سلبية ينجم عنها إضرار بمصالح المواطنين». ولتبرير هذا الخيار يستند دعاة هذا الخيار على حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 7 فبراير 2006، الذي أيد قرار الاقتطاع بعلة غياب نص تنظيمي ووجود فراغ تشريعي بخصوص تنظيم هذا الحق، مما يعطي للقضاء الإداري إمكانية خلق ضوابط كفيلة بتأمين ممارسة الحق في الإضراب بشكل يضمن الحفاظ على سير المرافق العمومية بانتظام واطراد. كما استندت المحكمة في قرارها إلى أن «عدم التزام الجهة المضربة بالضوابط المقررة لممارسة هذا الحق يؤدي إلى عرقلة سير المرفق العام ولجوء الإدارة إلى تطبيق مقتضيات المرسوم رقم 2.99.1216 الصادر في 10 ماي 2000 باعتبار أن الأجر يؤدى مقابل العمل».
سهيل.. الحوار أولا رغم أن النقاش حول مشروع قانون الإضراب وحول تفعيل آلية الاقتطاع من أجور المضربين ما يزال لم يصل بعد إلى شكله المؤسساتي، من خلال عرض المشروع على البرلمان، وتلقي ملاحظات ونقاشات الجهات المعنية به، فإن هذا لم يمنع من وجود توجه آخر يصر على تفادي أي صدام قد يحول النقاش عن مساره الصحي. ويؤكد أنصار هذا التوجه على ضرورة بحث جميع السبل الكفيلة بجعل علاقة المشغل والأجير علاقة صحية أكثر منها علاقة صدام وغياب ثقة. وفي هذا الصدد أكد عبد الواحد سهيل وزير التشغيل والتكوين المهني أن الوزارة تعمل على تطوير مجال العمل والعلاقات المهنية وأنها تشتغل على حماية حقوق الشغيلة وواجباتها وحماية حقوق مشغليهم وبناء علاقات مهنية تتسم بالاستقرار والتطور. وقال عبد الواحد سهي٬ إن الوزارة تتوخى الدفع بالفرقاء الاجتماعيين إلى السعي إلى حل أكثر ما يمكن من المشاكل عبر الحوار بينهم٬ وأن يلجؤوا إلى التحكيم وتوسيع مجال الاتفاقيات الجماعية التي تعتبر إطارا هاما للحفاظ على حقوق وواجبات الأطراف. وعلى صعيد متصل، اعتبر سهيل أنه لا ينبغي اللجوء إلى الإضراب إلا بعد اختلال العلاقات المهنية المتزنة٬ وأكد أنه يجب عند اللجوء إلى الإضراب مراعاة حقوق جميع الأطراف٬ لأن خوض الإضراب ينعكس٬ في بعض الأحيان٬ بشكل سلبي على أداء المصالح الخاصة بالمواطنين٬ وبالتالي فإن «العلاقة ليست بين طرفي الإنتاج، بل هناك علاقة مع المجتمع». وأشار إلى أن كل البلدان الديمقراطية تتوفر على قوانين خاصة بممارسة حق الإضراب٬ مبرزا أن الحكومة لا تسعى إلى التضييق على حقوق الشغيلة وإنما ينبغي تنظيم حق الإضراب٬ متسائلا «هل من الديمقراطية أن يتخذ قرار الإضراب ويعلن عنه أفراد قلائل ويرغموا الأغلبية على خوضه؟». وأوضح سهيل أن الحكومة تسعى إلى أن لا تصوغ مشروع القانون المنظم لحق الإضراب بشكل منفرد٬ حيث تتوخى اعتماد مقاربة تشاركية في هذا الملف. وذكر في هذا السياق بأنه تم إرسال نص المشروع وكذا مشروع القانون المتعلق بالنقابات إلى الاتحاد العام لمقاولات المغرب وإلى المركزيات النقابية من أجل الإدلاء برأيها٬ مشيرا إلى أنه تم تلقي أجوبة الاتحاد العام لمقاولات المغرب وبعض النقابات، في حين رأت بعض المركزيات النقابية أنه لم يحن الوقت بعد لإخراج هذه المشاريع إلى حيز الوجود. جمال بلحرش : حان الوقت للتأسيس لديمقراطية اجتماعية - ما موقف الاتحاد العام للمقاولات من مشروع قانون الإضراب الذي تستعد الحكومة لعرضه على البرلمان؟ أنا أركز على الفكرة التالية، وهي أن الباطرونا المغربية لا تعارض الحق الدستوري في الإضراب، ولكنها بالمقابل تطالب بأن يتم تقنين قواعد اللجوء إليه. بمعنى أنه يلزمنا نص قانوني مثلما هو موجود في جميع الدول، يشرح من بإمكانه إعلان قرار الإضراب، كما يتضمن حق تمكين الأشخاص من العمل وغير ذلك من الأمور المتعلقة.. وهذا مبدأ نص عليه الدستور الجديد مثلما نص على الحق في الإضراب. على النقابات اليوم أن تفهم أن تأطير الحق في الإضراب هو فرصة جيدة لها، لأن هذا يعني أنه حين نضع نصا قانونيا للإضراب فمن سيكون له الحق في إعلانه؟ بطبيعة الحال، النقابات الأكثر تمثيلية فقط. وهذا يعني أننا نفتح الباب أمامها لتلج المقاولات، واليوم ليس هناك تقييد لحق الإضراب، بل من الضروري التوفيق بين الحقوق والواجبات. من الضروري أن يفتح نقاش أولي قبل الوصول إلى الإضراب، يليه الإخبار القبلي، وهناك أيضا قطاعات حيوية لا يمكن أن يضرب فيها العمال، وهناك أيضا ضرورة ضمان الحد الأدنى من الخدمات كما هو معمول به عبر العالم. الاتحاد العام لمقاولات المغرب اقترح نصا واضحا يركز على أمرين مهمين، أولهما أن النقابة الأكثر تمثيلية هي التي لديها الحق في الدعوة إلى الإضراب. وفي حال عدم وجود نقابة، من الضروري أن يقرر الجمع العام لجميع المستخدمين هذا الأمر من خلال خلق لجنة للإشراف على الإضراب، هي التي تصير مخاطبا للمقاولة. وكما تعلمون، غالبا ما يتم اللجوء إلى الإضراب بشكل «متوحش»، وليس هناك مخاطب. ومن إيجابيات أن يكون لنا قانون منظم للإضراب أن نمنح الثقة للمستثمرين الأجانب الذين نحن في حاجة ماسة إليهم، ونمنحها أيضا للمقاولات المغربية المستقرة بالمغرب حتى تتمكن من الاستثمار أكثر، مما يسمح بخلق فرص شغل أكبر وتحقيق نسب نمو أعلى. في رأيي الشخصي، علينا أن نتجاوز المنطق الدوغمائي الذي يتحكم في الإضراب، والاقتناع بألا أحد يعارض هذا الحق. هذا خطاب قديم لم يعد له وجود لأن رجال الأعمال المغاربة كانوا أكثر وضوحا في هذا الموضوع وأكدوا في أكثر من مناسبة احترامهم لحق الإضراب. علينا أن ننتقل إلى منطق اقتصادي يقتنع بألا فائدة من توقيف مقاولة عن الإنتاج، وفي الآن نفسه منطق اجتماعي يأخذ بعين الاهتمام مطالب المستخدمين. كما علينا أن نفتح نقاشا عميقا ومثمرا حول الأسباب التي تؤدي إلى عدم احترام مقتضيات مدونة الشغل، ولكن بالمقابل علينا أن نثير مسألة أساسية هي أن أغلب الإضرابات يتم خوضها في القطاع غير المهيكل، وداخل مقاولات لا يصرح أصحابها بالأجراء ولا يؤدون واجباتهم الضريبية، عكس القطاع المهيكل، الذي تتوفر فيه، بشكل عام، شروط أفضل للاشتغال. من الضروري أيضا الإشارة إلى العمل الذي قمنا به على مستوى الاتحاد العام للمقاولات، فيما يتعلق بالوساطة. إذ لأول مرة وقعنا اتفاقيات مع المركزيات النقابية لتشجيع الوساطة في مجال الشغل. والهدف من هذه الاتفاقيات تمكين المقاولات التي تعرف نزاعا مع أجرائها من الاستفادة من مقتضيات هذه الاتفاقيات، حيث يتم تخصيص وسيط يتحدد دوره في إنهاء المشكل قبل تطور الأمور إلى الأسوأ. وهذا دليل على أن هناك الكثير من الميكانيزمات التي تحول دون الوصول إلى خيار الإضراب بشرط قبول مبدأ النقاش والتشاور. - أثار قرار الحكومة بالاقتطاع من أجور المضربين نقاشا واسعا. ما رأيك في هذا الخيار؟ الأمر بسيط. هناك اليوم منطقان: منطق في القطاع العمومي ومنطق في القطاع الخاص، وهما مختلفان تماما. لكن هناك شيء يوحدهما، هو أن الأجر يكون مقابل عمل يؤديه الأجير، ومن الطبيعي أن التوقف عن العمل يستلزم توقيف هذا التعويض، وهذا ينطبق على المضربين، لأنه لا يعقل أن يتم أداء أجور أجراء مضربين عن العمل. ولهذا لا يجب الوقوع في خطأ التعامل مع هذا الملف بشكل عاطفي. بالمقابل علينا أن نسعى بكل الوسائل إلى تفادي خيار الإضراب، وهذا يتأتى بفتح قنوات الحوار والنقاش بين الطرفين. - من المبررات المقدمة لضرورة إخراج قانون منظم للإضراب هو تأثيره السلبي على الاقتصاد الوطني. هذا في رأيي هو لب الموضوع، ولا بد من الإشارة إلى أن عدد الإضرابات تضاعف خلال السنة الماضية، وفقدنا أزيد من 300 ألف يوم عمل، وهذا ما يجب التركيز عليه، أما ما دون ذلك فلا يعدو أن يكون مزايدات سياسوية شعبوية. ومرة أخرى علينا أن نقتنع بأن الإضراب هو فشل تشترك فيه المقاولة والأجير والنقابة، وهذا مؤشر واضح على عجزنا عن الحوار. ولهذا قلت إنه من الواجب أن نتعلم كيفية التحاور، وهنا يبرز دور الديمقراطية الاجتماعية التي تقودنا بالتأكيد إلى الديمقراطية السياسية. وهذه الديمقراطية الاجتماعية ستتحقق إذا لعب كل طرف دوره المفروض بدءا برب العمل وممثل العمال والمجتمع المدني. النقابات تلعب دورا أساسيا، وهذا لم يكن يقال في السابق، واليوم الباطرونا تقوله، لكننا نريد نقابات مسؤولة وذات مهنية وذات تكوين، وفي الوقت نفسه على أرباب المقاولات الاقتناع بأن للنقابات دور لا غنى عنه. ولعل أهم رسالة يجب التأكيد عليها في احتفالات فاتح ماي لهذه السنة هو أنه حان الوقت للتأسيس لديمقراطية اجتماعية في بلدنا حتى لا نخسر المزيد. رئيس لجنة الشغل والعلاقات الاجتماعية بالاتحاد العام لمقاولات المغرب