نسائل في هذه العجالة الحركية الممتدة والمتصاعدة في الشارع العربي مشرقا ومغربا أو من سوريا حتى المغرب الأقصى. لا يعني هذا أنه من الوارد هنا، أن نقف عند كل حالة بمفردها كما فعل البعض مؤخرا بطريقة متعسفة جدا، وفي غياب للأدوات المعرفية التحليلية المرهفة الكفيلة باستنطاق الواقع العربي في سياق تحوله. نحن نؤمن هنا بشيء من التشابه بين البيئات والظروف في بلدان الحراك الشعبي الأخير. ومن ألوان هذا التشابه نذكر وجود أنظمة استبدادية غاشمة عملت، بشكل كبير ومتفاوت، على الإجهاز على البقية من عناصر الاستقلال الموجودة لدى مجتمعاتنا والزج بها، في النهاية، في حال من البؤس والفقر والعجز الاجتماعي الموصول بجدره المادي، وفي وضع كبير من التبعية للمؤسسات الاقتصادية العالمية (مؤسسات الدين العالمي) ذات الارتباط باقتصادات الدول الكبرى. بعبارة موجزة، لقد حققت لنا الارتهان العميق والكلي للمنظومة الرأسمالية واقتصاد السوق بما لا مزيد عليه. نعم، لقد أجهزت بمعنى عميق على شيء من الفصل الجزئي حققته مثلا ثورة 52 بمصر، ونقصد الفصل بين الاقتصاد الوطني المصري ونظيره العالمي، ذاك الفصل الذي كان يعني استعداد النظام المصري في تلك الحقبة للدخول في مغامرات تنموية، ربما انتهت إلى تحقيق نصر كثيرا ما حلم به الفرد المصري منذ محمد علي وطيب الذكر الخديوي إسماعيل. أسلمته أيضا إلى شيء كبير من العجز الفكري الثقافي، فلم تعد هناك في ظل الأنظمة التي تعمل شعوبها اليوم على إفنائها الواحد تلو الآخر -«نرجو أن يمتد الحبل نحو النظام السعودي الذي يشكل سقوطه، في نظرنا، بداية التحرر الفعلي التاريخي للذات والفعل العربي والإسلامي»- إمكانية لربط الثقافة بالتحولات الاجتماعية، نقصد أنه في ظل هذه الأنظمة انعدمت إمكانية تحول الفكرة/الماهية إلى نشاط ووجود وفعل اجتماعي عاقل وموضوعي، إنما فتح المجال واسعا لسلوكات عفوية لها تأثيرها، ولأفكار محضة معزولة تماما في سياقاتها ومساراتها الاجتماعية، نعني أن المثقف في ظل المستوى غدا واحدا من أجزاء النظام أو قل تحول إلى ممارسة وظيفة الدفاع عن النظام وتبرير ممارساته، وأحيانا الدفاع عنها بصفتها الحق المطلق، وما ذاك إلا لأن الدولة تخشى النقد والفهم الذي ينصرف نحو الظواهر العقلية والاجتماعية، وأيضا الوجدانية، من أجل دراستها ومناقشة أزمنتها أو تطورها وفهم مغاليقها وأعطابها. أسلمته أيضا ووجدت لديه نزوعات دينية متفاوتة الخطورة وميل إلى تدين ليس هو الذي تكلم عنه يوما ماكس فيبر والذي أسعد الحظ به أوربا في لحظة تاريخية ما، فقفزت انطلاقا منه نحو آفاق واسعة من الحداثة والإصلاح، وإنما هو تدين مغشوش يراعي كثيرا المظهر والشكل (الحرص على العبادات) في غياب كلي لعمل أخلاقي وفكري نزيه وواضح وإيجابي يمكن أن يطهر المجتمع ويغسله من أمراضه المزمنة التي تعاظمت وتأبدت بشكل غير مسبوق (ينظر سيد القمني). إن كثيرا من الضعف الذي أصاب مجتمعاتنا راجع إلى اختياراتها السياسية على أساس أن الوعي السياسي يشكل أعلى مستويات الوعي، هذا درس ماركس الذي أصبح إلى جانب كل العناصر الصحيحة في النظرية مضموما إلى العلم وجزءا منه. انطلاقا من هذا وكيما نخرج من لحظة التوصيف السابقة، نطرح الأسئلة التالية: كيف نفسر الحراك الشعبي العربي الأخير؟ كيف نفسر ونفهم هذا الوارد الذي دفع به استشهاد البوعزيزي إلى الساحات والأماكن العامة كمن يريد استردادها من اغتصاب دام عقودا؟ كيف نفهم تعاظم واشتداد الصراع بين القوى الاجتماعية والأنظمة بدل الصراع في ما بينها، أي هذه القوى، كما تقول ماركسيات مبتذلة منقولة؟ ما دور العامل الديني، إن كان له دور يحسب، في هذا الحراك أو الدينامية؟ لماذا انخرط الإخوان وغيرهم من التيارات الإسلامية متأخرين في هذه الدينامية لنجدهم متصدرين المشهد الانتخابي (المغرب، مصر، تونس)؟ أسئلة من كلٍّ كثير متشعب نحب أن نتلوها مع القارئ علنا نظفر ببعض إجابة تضيء مسيرة هذا الحراك وتفسر لماذا يمكن اعتباره جزءا من آخر أوسع هو مسيرة التحرر الوطني الذي دخلت فيه مجتمعاتنا في البداية مع القوى الإمبريالية، وها هي اليوم تستكمل بعضا من مهماتها التي دخلت انتظارا طويلا، ربما للفصل الأخير الذي لم يحن أوانه. يفيدنا المصطلح الخلدوي هنا، ونعني مصطلح نشأة مستأنفة، للتعبير عما يحدث اليوم في البلدان العربية، وهو ما قصدناه لقولنا إن الحراك الشعبي الذي تتفاوت وتائره هنا وهناك صيغة ثانية وجزء من حركة التحرر الوطني، لكن هذه المرة ضد أنظمة نشأت وتكرست لما فشلت حركة التحرر الوطني ضد الإمبريالية في بناء أنظمة ديمقراطية شعبية تسمح بالحريات وبالتعددية وبالتداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة والمطالب الاجتماعية التي كان من المفروض أن نضعها إلى جانب المطلب السياسي الأسمى وهو تحقيق الاستقلال والتحرر من قبضة المستعمر. نحن نشير هنا إلى أن حركة التحرر الوطني لم تكن، للأسف، ثورية شعبية كما زعم ذلك بعض مؤرخي المرحلة (مهدي عامل، حسين مروة). نعم كانت وطنية قومية، لكن ثورية تعبر عن صراع طبقي. هذا ما يكشف الحراك الشعبي اليوم عن بطلانه وزيفه مصداقا لهذه الشعارات ذات الطبيعة الاجتماعية المرفوعة اليوم من لدن شباب (يرفض التنظيمات السياسية ذات المصداقية أو تلك التي أوجدها النظام لخدمة أهدافه)، لكنه استيقظ على مستقبل مفوت، وعلى فوات كثير من مصالحه أو تفويتها وسرقتها من قبل أنظمة مستبدة امتصت الثروة وغرزت مخالبها في البقية الباقية من هذا الجسد المنخور. صحيح أن الحراك الشعبي هذا يفتقر إلى كثير من التأمل في أوضاعه بعيدا عن سكرة ونشوة إسقاط الأنظمة، خاصة بعد سقوط نظام مبارك الذي نعتبر سقوطه عنصرا حاسما في تطور الحراك وتعاظمه، إن لم نقل نضجه في أفق صيرورته استقلالا تاريخيا حقيقيا. والغريب أنه بسقوط نظام مبارك طرحت جميع الأسئلة المتعلقة بالهوية، والبرنامج الوطني الكفيل بانتشال المجتمع من مشكلاته والقائم على مصالحه وأهدافه: الحرية، التعددية، العلاقة بالتراث،... وصحيح أيضا افتقار هذا الحراك إلى دعامة نظرية واضحة قادرة على مده بالإجابات والمعطيات المناسبة في سياق صيرورته مشروعا وطنيا بديلا، وصحيح أيضا أن حركة التحرر الوطني كانت مسبوقة بعمل نهضوي إصلاحي (محمد عبده، الأفغاني) أمدها بأسلحة علمية وفكرية عميقة حولتها، بفعل اشتباكها بواقعها المعقد والمكتنز، إلى وسائل وأدوات للعمل السياسي. لقد أجاب أو حدد محمد عبده، من منطلق ديني ونظري متفتح، العلاقة بين الإسلام وكثير من مفاهيم العصر: الحرية وخاصة الدينية، العدالة، العقل، مدنية الدولة الإسلامية، مادية قوانين الاجتماع الإنساني... صحيح أيضا افتقار الحراك إلى كوادر قادرة على استثمار المكاسب الحقيقية الموجودة لدى الجماهير. وهنا نشير إلى العلاقة الملتبسة بين الحراك والتنظيمات السياسية، نقصد: - عجز هاته الأخيرة عن قراءة الأوضاع الاجتماعية بطريقة سليمة وواضحة؛ - عجزها أو ضعفها الأخلاقي، ونعني به عجز البناء القيمي الذي تأسست عليه عن أن يكون شاغلا حقيقيا لدى الجماهير؛ - ضعفها العلمي، ونعني عجز أدواتها التحليلية عن فهم وتفسير البنية الاجتماعية في تحولاتها، وعن استثمار الأنساق الفكرية (الإيديولوجية من حيث هي وعي منقول لإضاءة واقع آخر مختلف ومتخلف) من أجل بناء فهم مطابق لما هو موجود؛ - هذا علاوة على ضعفها الخطير من جهة ارتباطها بالجماهير التي كشفت عن عفوية كبيرة وكشفت بدورها عن قلق اجتماعي لم يجد، للأسف، الإطار والمفهوم الذي يحتويه ويحمله. أستاذ باحث