لازال الجدل حول دفاتر التحملات، التي تقدم بها وزير الاتصال مصطفى الخلفي، لم يهدأ بعد، رغم أن المسؤول الحكومي ارتكن الى الصمت القابل لأكثر من قراءة، وهي الخطوة التي لم يجد لها المتتبعون أي تفسير حتى الآن سوى أن الخلفي يشعر بالخيبة بعد أن اضطر إلى الخضوع لتوجيهات تطلب منه إمساك العصا من الوسط وعدم التصلب في الدفاع عن مقتضيات دفاتر التحملات واعتماد المرونة في عدد من البنود. إن حكومة بنكيران جاءت نتيجة لانتخابات تحقق حولها إجماع سياسي من حيث نزاهتها، رغم بعض الهفوات التي شهدتها العديد من المناطق، وبالتالي فهي حكومة تحوز شرعية شعبية خولتها لها صناديق الاقتراع، التي بوأت حزب العدالة والتنمية الصدارة بعد نيله عددا من المقاعد لم يسبق لأي حزب في المغرب أن حصل عليها طيلة الانتخابات، التي جرت في العقدين الأخيرين، والتي عرفت قدرا من النزاهة لا بأس به. إن حيازة الشرعية الديمقراطية والشعبية من لدن حزب من الأحزاب، والتي تمنحه فرصة تدبير الشأن العام، هي خطوة لتطبيق البرنامج السياسي والمشروع المجتمعي لهذا الحزب، مستخدما في ذلك الإدارة عبر كل مرافقها العمومية وشبه العمومية من أجل تحقيق هذا الهدف. ولذلك فإن الادارة بكل مرافقها يجب أن تكون تحت تصرف الحكومة المنتخبة من طرف الشعب من خلال حصولها على أغلبية الأصوات داخل قبة البرلمان عبر مكوناتها السياسية التي تشكل التحالف الحكومي. ممارسة حزب سياسي مهمة تدبير الشأن العام هي مهمة محفوفة بالكثير من المخاطر لسبب وحيد وأساسي هو أن هذا الحزب معرض بعد سنوات قليلة للامتحان مرة أخرى من طرف الناخبين. ولذلك يجب أن يضع في اعتباره أثناء ممارسته «الحكم» هذا اليوم، الذي هو يوم حساب عسير قد تكون فيه نتائج الاقتراع عبارة عن عقاب شديد للحزب، من طرف عموم الناخبين الذي خيب أملهم في بلوغ مطمح البلد الديمقراطي الذي يحقق العدالة والكرامة والمساواة لكل مواطنيه بكل أجناسهم وأعراقهم وتلاوينهم الفكرية والسياسية والدينية. من هذا المنطلق فإن حزب العدالة والتنمية رفقة الأحزاب الثلاثة الأخرى المشاركة في الحكومة يجب أن يكون واعيا بالمأزق الذي يضع نفسه فيه من خلال خفض رأسه للعاصفة في كل معركة يطرحها التسيير العادي لشؤون البلد، خاصة أن مستقبل الأيام سيكون حافلا بكل المفاجآت الممكنة في ظل وجود ملفات عديدة ستكون الحكومة مضطرة إلى فتحها بفعل المطالب المتزايدة للمجتمع المدني بضرورة محاربة الفساد المستشري في العديد من القطاعات. ولذلك فإن الخضوع لمراكز قوة مختبئة في الظل ولا تنزل إلى الشارع ولا تمارس لعبة الانتخابات ولا تتعرض لأي محاسبة من أي نوع كانت، بدعوى «ممارسة السياسة» وتحقيق التوازن وعدم الاندفاع وإبداء حسن النية، كلها مفاهيم سبق وأن أدت بعبد الرحمان اليوسفي إلى الخروج «المهين» من المشهد السياسي الذي تابعه الجميع. على بنكيران أن يستحضر لحظة الانتخابات التي ستأتي مسرعة بأكثر مما يظن، وأن يستحضر تجربة الاتحاد الاشتراكي الذي لو عرف كيف يدير اللعبة لما كان مصيره ما هو عليه اليوم، وأن الزهو بأصوات الناخبين في المرحلة الحالية لا يضمن أن يكون دائما لأن الجماهير معروفة ب«مزاجيتها» و«براغماتيتها»، وأنها تذهب مع من يحقق لها أكبر قدر من المكاسب وليس مع من يبدي أكبر قدر من حسن النوايا. إن المنهجية الديمقراطية تقتضي من الحزب المشرف على تسيير أمور الناس أن يدافع عن أفكاره وعن مشاريعه وإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يعلن عجزه ويبرر لجموع ناخبيه الأسباب الكامنة وراء هذا العجز ويفضح من عرقل مسيرته لتحقيق مخططاته. أما الارتهان إلى لغة الصمت، فالتجربة التاريخية أكدت أن الصمت ليس دائما حكمة، وأنه قد يكون طريقا نحو الجحيم المفروشة بحسن النوايا، وأن الديمقراطية قد تذبح على محراب التوافقات، ما دامت هي ابنة شرعية للصراع السياسي وللتدافع وليس لحكمة الصمت والتوافقات، التي أثبتت فشلها طيلة العقود الخمسة الماضية من تاريخ المغرب المعاصر.