إذا كانت قيمة النقاشات النظرية تعكس الوعي السياسي للنخبة المثقفة، فإنه للأسف الشديد عندما تغيب الحكمة ولغة التعقل يتم إخضاع المجتمع للعديد من القضايا النظرية التي قد تبدو للوهلة الأولى منطقية وجدية، لكنها في حقيقة الأمر قضايا إيديولوجية مرتبطة بقراءات سياسوية وحسابات خاصة. ومن ذلك قضية الحريات العامة التي تعتبر معيارا حقيقيا للتأكيد على قيمة النجاح العملي للسياسات العامة. ولعل المتتبع لما ينشر إعلاميا يلاحظ إستراتيجية التهويل من خطر تهديد الحريات العامة، فهذا شاب ملتح يعنف فتاة باسم تغيير المنكر، وهذه ميلشيات تشكل فرقا لممارسة شتى أشكال العنف الممنهج...إلى غير ذلك من الصور التي تروج بقصد تخويف المجتمع من صورة الإسلامي الذي يهدد الأمن العام وكأننا نعيش خارج دائرة الدولة. وبغض النظر عن الخلفيات الإيديولوجية للنقاش الدائر اليوم حول الحريات، فإن ما يهمنا التركيز على الأسئلة الإشكالية التالية: -لماذا لم نطور فضاءات الحوار التي تجمع مثقفي جميع المدارس السياسية والحركات الإسلامية والتيارات الأمازيغية.. لترسيخ ثقافة الاختلاف، ليس باعتبارها غاية في حد ذاتها، وإنما باعتبارها وسيلة لتطوير التواصل السياسي بين كافة الفاعلين لتجنب القراءات الإيديولوجية الغارقة في عقلية التعصب والحقد الأعمى على الخصم السياسي؟ - ولماذا لم نتمكن من إنتاج مثقفين ملتزمين بقضايا المجتمع والتغيير والإصلاح السياسي، ولكن بمواصفات أخلاقية عالية، بحيث كما نجد المثقف العلماني الموضوعي، الذي لا يجد حرجا في انتقاد أي انزلاق نحو العنف الرمزي، سواء تمثل في مصادرة حق المتدين في التعبير، أو التكفير، نجد المثقف الإسلامي المناضل الشريف الذي في قمة اعتزازه بانتمائه الإسلامي، يمثل نموذجا أخلاقيا في الدفاع عن حقوق جميع الفاعلين السياسيين باختلاف ميولاتهم الإيديولوجية وقناعاتهم الحركية؟. -هل الأمر يعود إلى غياب التنشئة السياسية على قيم الاحترام والاختلاف في مجال الثقافة السياسية المغربية، أم يعود إلى غياب الربط العلمي بين الممارسة السياسية ومراكز البحث العلمي، أم يعود إلى آليات اشتغال العقلية الإيديولوجية التي ترفض منطق اللغة العلمية؟. إن إشكالية الحريات الفردية لا يمكن أن تحسم إلا باعتماد لغة الحوار المتحضر على أساس أن اختلاف المرجعيات العقدية والفلسفية لقضية الحرية يفرض ضرورة تحليل العلاقة بين ممارسة الحرية والإطار النظري المشكل للأنساق التصورية لفلسفة الحرية. ولذلك يستحيل أن نتفق حول الدلالة الموحدة لمفهوم الحرية من داخل مرجعياتنا المتناقضة، سواء منها التي تنتمي للمرجعية الإسلامية، أو المرجعية الحقوقية الكونية كما هي متعارف عليها دوليا. وهنا جوهر النقاش: إذا كانت فلسفة الغرب أسست للحريات الفردية في إطار ما أسمته بالحقوق الطبيعية نظرا للإشكالية التي عرفتها الحضارة الغربية تجاه العقيدة التي مارست عليها الطغيان ومحاربة العقلانية والفكر الحر باسم رجال الدين وهيمنة الكنيسة، فإنه بالنسبة للحضارة الإسلامية لم تعرف هذه الإشكالية من داخل المرجعية العقدية. صحيح أنه تم استثمار الدين لشرعنة الاستبداد من خلال التأويل الإيديولوجي والقراءة المذهبية للدين، ولكن لا يمكن بمنطق الأخلاق أو العلم اتهام الإسلام بأنه يعطي الشرعية لمحاربة الحرية بحكم الإطار المقاصدي الناظم لفلسفة الدين المحدد في مقصد الرحمة الإلهية، كما في قوله تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، ولا يمكننا أن نتصور الرحمة الإلهية إلا باعتبارها المصدر الرباني للحقوق الإنسانية وللحريات البشرية. وفي هذا السياق، لا يمكن أن نتصور عقائديا أن المرجعية الإسلامية، التي من أعظم خصائصها الخاصية الإنسانية، أن تكون مرجعية قاهرة للحرية البشرية، أو أن تكون عنصرية أو طائفية، خاصة بفئة مذهبية، أو بجنس بشري. وبهذا المفهوم، فإن كونية قيم الحرية في المنظور الإسلامي تأخذ بعدا إنسانيا، يعطيها طابعا منفتحا على كل القيم الإنسانية، كيفما كانت طبيعتها، مادامت مؤصلة على قيم الفطرة الإنسانية، للاستحالة المنطقية مصادرة الرسالة الإسلامية للقيم المبنية على الأخلاق الإنسانية الفاضلة، وهو ما يفسره الحديث النبوي الشريف «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أو صالح الأخلاق، كما جاء في بعض الروايات، الشيء الذي يؤصل لضرورة الاجتهاد المقاصدي في مجال التواصل الإنساني على قاعدة الحرية باعتبارها الأرضية المشتركة، التي من المفروض أن تمثل «الكلمة السواء» لميثاق إنساني يقوم على التكريم الإلهي للإنسان، الذي شرفه الله عز وجل بحمل رسالة التوحيد والاستخلاف في الأرض، مصداقا لقوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم». ولو استوعبت الأمة فلسفة الحرية في إطار الرؤية الجمالية للدين المقعدة على الرؤية التوحيدية للوجود، التي تجعل الحرية مقصدا من مقاصد الشريعة، لقدمت للعالم نموذجا حضاريا للأمة المتحررة بعبوديتها لله عز وجل، والغارقة في مقامات المحبة الإلهية التي تعطيها الطاقة الروحانية التي ترتقي بها إلى مقام النموذج العمراني المؤسس على فلسفة القيم الكونية والأخلاق الإنسانية، المجسدة في نموذج الكمال النبوي عليه الصلاة والسلام.