لتكريس الحداثة وجب أن تكون جماهيرية عبر إبداع مسار مغربي للتنوير، يؤسس لثورة ثقافية، وهنا نُقسّم الحداثة الموجودة في المغرب إلى حداثتين: حداثة جلبتها النخب الفرنسية، وهي حداثة فقوية، ظلت تائهة، وسبب ذلك أن مستورديها لم يكلفوا أنفسهم عناء استمدادها من رحم الشعب المغربي، الأمر الذي تمخضت عنه حالة عزوف الفئات المتنورة التي تحس بالغبن وعدم الاستفادة من عشرية التحديث ومن المشاركة في الانتخابات. وهذا المعطى يقتضي تجاوزه عبر إفراز حداثة من عمق الشعب كفيلة بتقوية روح الأمل في نفوس الأجيال الجديدة خريجة الجامعات المغربية عبر تجاوز العقدة الفرنسية في التحديث ومواجهة نظام الامتيازات الذي يضرب المساواة عبر محاربة اقتصاد الريع الذي يقوي الإحساس باللامساواة، ومكن العديد من «العائلات» من حصد أموال طائلة يوميا دون القيام بأي مجهود فكري أو عضلي، والاستقواء بها على أولاد الشعب وتكريس التوريث؛ فنظام الامتيازات هذا أغرق البلاد في عمليات تمييز خطيرة بين المغاربة، مع أن هذا النظام ينفرد به المغرب دون سواه من بلدان العالم. لهذا نحن مدعوون إلى ضرورة النضال الجماعي من أجل الحريات والحقوق التي ضحت من أجلها أجيال اتحادية بالدماء والحرمان من الحرية والسجون والمنفى... وندعو قيادتنا إلى فتح المجال لنا، كتيار لأولاد الشعب، من أجل المشاركة في لحظة التحول التاريخي وتحقيق انتقال هوياتي يرسخ خط نضال واضح من أجل تكريس الحداثة، والمساهمة بشكل جماعي في إقرار برنامج شامل يمكننا من المصالحة مع روح العصر ومن ضمان انتقال هوياتي هادئ قصد مواصلة المسار الاتحادي من موقع المعارضة عبر طريق سياسي جديد، تنخرط فيه كل قوى التقدم والحداثة. بعيدا عن اللغة الغارقة في تمجيد الذات، لأن السياسة -أيها القادة- لا يمكن أن تمارس بالأحقاد ومنطق صراع الخمسينية ولا بمنطق الوصاية، وإنما بتحقيق المصلحة الوطنية لمغربنا، العزيز على قلوبنا جميعا، وجعله المحدد الأساسي أو المحفز على استكمال الرسالة الاتحادية القائمة على أساس الالتزام بمجموع القيم الإنسانية النبيلة التي تنطلق من الفخر بالانتماء الوطني والسعي المتواصل إلى التقدم على أساس حرية الفكر والإبداع؛ فجسامة اللحظة التاريخية تستوجب نقدا ذاتيا ليس من أجل الذات أو بإلقاء اللوم على بعضنا البعض، بل من أجل الانطلاق وفتح الآفاق لمرحلة ثالثة بجيل شبابي جديد متحرر من عقد الماضي ومتطلع إلى بناء الحاضر ومغرب المستقبل. هذه الغاية تقتضي منا تجنيد طاقتنا وحشد مؤهلاتنا وتحفيز ذواتنا، فالحلم بوطن موحد يستفيد من الجميع ويفيد الجميع يظل قيمة سياسية أخلاقية ثمينة تشكل أساسا متينا لكل تحالف سياسي هدفه القطبية السياسية الواضحة التي سترقى بالتجربة الديمقراطية المغربية نحو تناوب سليم. وهذا التناوب يقتضي الإيمان بكون السياسة لا تكون بالحقد والكراهية، بل بنكران الذات وهوس الأنا اللامعقول وتوحيد الرؤية لتحقيق قطب حداثي يحقق ثورة من داخل المؤسسات. لتحقيق ثورة مؤسساتية إن الدستور الجديد جاء بالعديد من الصلاحيات التي جعلتها التجربة معلقة وستجعل المغرب في مفترق الطرق، وعلى المعارضة أن تدرك طبيعة اللحظة التي تستوجب الإعلان بدون تأخير عن تحالف في إطار قطب حداثي يعطي للمؤسسات الوضوح، خاصة مؤسسات البرلمان، من خلال العمل على توفير تراكم كمي وإعطاء المؤسسات دورها في إعداد السياسة العامة، ذلك أن الدستور الحالي وسع مجال التشريع؛ وهدف المشرع من هذا التوسيع إلى إعادة الاعتبار إلى المؤسسة التشريعية في إعداد السياسات العمومية ومراقبتها وتقييمها في إطار المحافظة على استقرار العمل داخل المؤسسات. وتظهر إرادة المشرع واضحة في الفصل 71 الذي وسع مجال القانون من تسعة مجالات كانت في دستور 1996 إلى ثلاثين مجالا، حيث أضاف مجالات تتعلق بالعفو العام ومعايير التقطيع الانتخابي والاتفاقيات الدولية. إن من شأن هذه الصلاحيات، إذا ما تم إعلان القطب الحداثي، أن تعطي مدلولا لمبدأ فصل السلطات القائم على التوازن من خلال تعزيز أدوات الرقابة عبر تعزيز قواعد المسؤولية والمحاسبة والشفافية وتكريس دولة الحق والقانون وتركيز ثقافة عدم الإفلات من العقاب وجعل البرلمان مؤسسة تعطي مدلولا لما أوكلها إياه المشرع بالتنصيص في دستور 2011 في الفقرة الأولى من الفصل 70 على ما يلي: «يمارس البرلمان السلطة التشريعية». والاعتراف بهذا الدور له انعكاس إيجابي على أداء السلطة التشريعية. ومن شأن الإعلان عن إنشاء قطب حداثي توفير الفضاء السياسي المحفز الذي يمكن من تجسيد مضامين الدستور على أرض الواقع، وما عدا ذلك سيبقي نصوص الدستور بدون روح، بل يمكن أن تعرف الحياة السياسية نكوصا في ظل وجود قوى محافظة تحاول الانقضاض على المكتسبات، والتي يمكن أن تسحب البساط من تحت القوى الحداثية وتعمل على تأويل الدستور تأويلا رجعيا، خاصة مع وجود فصول دستورية كالفصول 72 - 73 - 78 - 79 والتي تسحب البساط من تحت أقدام البرلمان وتجعل الحكومة هي المشرع الأصلي والبرلمان هو المشرع الاستثنائي، وتعمل على التراجع عن مكتسبات حقيقة كما حصل في مجال إدماج وتمكين النساء، من خلال التراجع الذي أظهره الاتجاه المحافظ في القوى المشكلة للحكومة التي تراجعت عن روح الفصل 19 وما أقره من حقوق وتدابير تدعم إدماج وتمكين النساء، ومن ذلك: ضرب عرض الحائط بالسعي إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء. هذا التراجع يجعلنا، كقوى مؤمنة بالحداثة وما تقوم عليه من حرية الفكر، نتخوف من التراجع عن المبادئ التي ناضلنا من أجلها ونسعى إلى حمايتها والدفع في اتجاه التنزيل الحداثي لها والتخلص من التوجسات غير المبررة والإسراع بإعلان تحالف تاريخي، بعيدا عن منطق الاحتواء الذي لا يكسب سنده مع الوثيقة الدستورية الجديدة التي منعت الترحال بتنصيصها في الفقرة الأولى من الفصل 61 كما يلي: «يجرد من صفة عضو في أحد المجلسين كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه في الانتخابات أو عن طريق الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها»، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تخليق وتطبيع الممارسة البرلمانية الداخلية وإضفاء طابع الاستقرار المؤسساتي عليها. بهذا فقط سيحقق المغرب ثورة ثانية تذكرنا بالثورة الأولى التي كانت من أجل الاستقلال، فالثورة الأولى سميت ثورة الملك والشعب، أما الثورة الثانية فلا تقل أهمية عن الثورة الأولى، إنها ثورة من أجل التصالح مع القيم الكونية والانفتاح على الثقافة العالمية، سلاحنا الاعتزاز بتنوعنا الثقافي وتسامحنا الديني وقبول الآخر. وخلاصة القول أن اللحظة تستدعي قياديا من أصول شعبية يتولى مؤازرة أولاد الشعب من أجل التحضير لمرحلة تحول جوهري يؤسس للجيل البديل الحداثي، لهذا فالحاجة اليوم ملحة إلى جبهة حداثية، تستوجب شجاعة من طرف القيادات الشائخة، وهذه الشجاعة لا تكون إلا بالتجرد من الذاتية ومعاندة الطبيعة ومعاكسة التاريخ الذي يفرض الاعتراف بضرورة التقاعد السياسي، والتخلي عن عقدة الزعامة عبر الإعلان وبشكل فوري عن ميلاد قطب حداثي يجمع القوى المعارضة ويرسم خطا نضاليا واضحا ومتينا، يقوي المؤسسات ويجعل تكريس البنية التحتية للخيار الديمقراطي صمام أمان لضمان عدم العودة إلى الممارسات اللاديمقراطية عبر الدفع في اتجاه المأسسة، من خلال توظيف الضمانات الدستورية التي تقطع مع أي نكوص، فالوثيقة الدستورية جاءت بصك الحقوق ودستور فصل السلط، والتلازم بين السلطة والمسؤولية؛ لهذا فإن قوة الأشياء تحتم الإسراع بسن القوانين التنظيمية قبل انتهاء الولاية التشريعية للبرلمان الجديد، في أفق وضع برنامج سياسي يعمل على تكييف المتطلبات المجتمعية في برنامج حداثي واضح نتقدم به إلى الشعب المغربي في الاستحقاقات القادمة، برنامج يعمل على استحضار الثقافة السياسية المغربية والطبيعة السوسيولوجية للمكون المجتمعي، وكذا الموروث التاريخي والبيئة المغربية القائمة على أساس القطع مع التهميش والإقصاء لأي مكون من مكونات الأمة المغربية. إن هذه الوسيلة وحدها القادرة على جعل التنوع الثقافي والحضاري للشخصية المغربية عامل قوة، وهو التنوع الذي يجعل الأمة المغربية مؤهلة للولوج إلى الحداثة التي تبدأ بثورة ثقافية. رشيد لزرق