مات الحسين السلاوي، مرة أولى، صباح الاثنين السادس عشر من أبريل 1951، عندما وضع رأسه في حضن والدته، «عيشة الرباطية»، وأسلم الروح إلى باريها في مسكن أخته زهرة جوار باب سبتة في مدينة سلا. أغلب وسائل الاتصال المعروفة اليوم كانت في علم الغيب، باستثناء إذاعة «راديو ماروك»، ومع ذلك سرى خبر الموت بسرعة بين العدوتين، حتى إن جنازة فنان الشعب، بعد ساعات معدودة، سار فيها الآلاف لتشييعه إلى مقبرة سيدي بلعباس. ولأن صاحب «النزاهة مع الناس القدام» يعتبر بحق «دعاوي البلا»، فقد كان قدر الحسين أن يموت مرة ثانية ببطء، على امتداد عقود، بداء التكالب الذي أغرى أشباه الفنانين باستغلال رصيده الفني، لتصبح روائعه مرتبطة بأصواتهم على حساب صوت فنان الشعب، حتى إن كثيرين من جيل اليوم سمعوا روائع الحسين السلاوي بصوت من هب ودب، ولم يسمعوها بصوت مبدعها. بل إن صاحب «السانية والبير» مات للمرة الثالثة بداء الإهمال الذي جعله يعيش الغربة في موته مثلما عاشها في حياته، مع فارق أنه في حياته كان يقضي شهور العام مغتربا جوالا بين شمال المغرب وجنوبه، لكنه يصر على العودة إلى مراتع الصبا في شهر رمضان، ليقضيه داخل أسوار سلا العتيقة بين السوق الكبير وزنقة الصف ومقهى صديقه شخشخ أو عندما راح للعمل فنانا محترفا في باريس، دون أن يتزحزح عن عادة العودة إلى «السلوانية» يستنطق فيها ذكريات الطفولة، رغم قساوتها. أما اليوم فهو غريب في مسقط رأسه، وهي أشد درجات الغربة إيلاما. فالمسؤولون المتعاقبون على المجلس البلدي في سلا مهتمون بصفقات التزفيت والتبليط، حتى لم يتبق لهم وقت لتكريم أشهر فنان سلاوي. والمتعاقبون على وزارة الثقافة، على اختلاف ألوانهم السياسية، كرموا من شاؤوا من الأحياء والأموات، من العائلات المحظوظة ومن الأصدقاء والمقربين، حتى لم يتبق لهم وقت للاهتمام بفنان الشعب، لا بجمع رصيده الفني المشتت ولا بإطلاق اسمه على شارع أو مسرح أو مؤسسة فنية، بل وحين توصلت الوزارة باقتراح نشر كتاب عن حياة الحسين السلاوي في ذكرى مرور نصف قرن على وفاته عام 2001، لم تكلف الوزارة نفسها حتى عناء الاعتذار إلى صاحب الاقتراح. واليوم، يواجه الحسين السلاوي شبح الموت للمرة الرابعة و.. الأخيرة، فأمام أزمة المقابر التي تعيشها سلا، مثل عدد من المدن الكبرى، ومع هذه الندرة التي حلت بقبر الممات، ولم تعد مقتصرة على قبر الحياة، هاهم أصحاب الوقت يعيدون فتح مقبرة سيدي بلعباس المغلقة منذ عدة عقود، لدفن موتى الزمن الحاضر على طريقة «دفين على بقايا دفين». ولن نستغرب أن يأتي سماسرة الجنازات يوما لهدم قبر الحسين السلاوي من أجل دفن ميت مجهول يتولى أهله دفع الثمن. من يتحرك اليوم لحماية فنان الشعب في قبره؟ السؤال يطرح نفسه بحدة. ولكن المجلس البلدي في سلا، الغارق حتى أذنيه في إعادة التزفيت وإعادة التبليط، ليس له وقت لسؤال ليست فيه صفقات ولا نفقات. ووزير الثقافة، المثقف السلاوي التقدمي المحترم، يستطيع أن يرفع هذا الحيف لو أراد، لأن الموضوع لا يكلف اعتمادات مالية، ولا يحتاج مصادقة على ميزانية، ولا أغلبية برلمانية، ولا مولاي ابيه... لكن هل يعرف الوزير السلاوي موقع قبر فنان الشعب؟؟ إذا كان هذا هو المانع فعلا، فهناك من يدل وزارة الثقافة عليه، وعلى قبر والدته «عيشة الرباطية»، في سبيل الله. أما إذا كانت اهتمامات الوزارة، مثل اهتمامات المجلس البلدي، صفقات ونفقات، فلن يبقى لنا سوى أن نقول لصاحب «دخلة الماريكان»: «يا غريب لك الله».