لأنه كان كبيرا في زمن الكبار.. الصوتَ الأرقى والأنقى، في زمن لم يكن فيه المجال «مباحا» لأصوات النّشاز، كما في أيامنا الرديئة هذه... لأنه كان عنواناً لتألُّق الفن المغربي.. «عندليبَ» الأغنية المغربية والعربية... فإنه، وإنْ رحل عن عالمنا، جسدا، فإن عطاءَه الصادقَ باقٍ، إلى الأبد، خالداً في ذاكرتنا الجمعية، نستعيد مع روائعه جميلَ الأداء وأناقةَ الفنان الأصيل.. حتى وإنْ كان مبدعَ أروع أغنية مغربية، بل وعربية، عن «الرحيل»، فإنه حاضرُ بيننا، على الدوام، نحتفظ لفنّه الصادق بجميل الوفاء وخالص الحب وستحتفظ له سجلات التاريخ الفني بصفحات من فخر واعتزاز... هو محمد الحياني، الذي حلّتْ ذكرى رحيله الرابعة عشرة في ال23 من أكتوبر الذي ودعناه بالأمس.. والذي استعادت إذاعة طنجة بهذه المناسبةَ محطاتٍ مشرقةً من مسيرته الفنية المتميزة، من خلال برنامج «أنيس المبدعين»، لمُعدِّه ومقدِّمه عبد الحميد النقراشي. كان الحاج يونس، متأثراً كثيرا، وهو يستعيد شريطَ ذكرياته عن الراحل، الذي ربطتْه به علاقة متميزة، حيث قال عازف العود المتميز إن الحياني كان «فنانا كبيراً و«شيخ» الكلمة، الذي كان يتحدث من قلبه وليس من فمه.. وهو لم يمت بالنسبة إلينا، فما زال حيا بفنه وبصدقه.. يصعب الحديث عن «هرم» كبير فرض وجوده في زمن فنانين كبار، أمثال محمد عبد الوهاب وكلثوم وعبد الحليم واستطاع أن يُعلن عن نفسه كواحد من الأصوات المتألقة من زمن يعزُّ فيه التألق وسط كل الأسماء الوازنة»... وأردف الحاج يونس، قائلا: «كنا أصدقاءه، ولكنْ لا أحد منا أعطاه ما كان يستحق وإنني لأتأسف لذاكرتنا الجماعية الجاحدة لفضل هؤلاء الكبار الذين رحلوا عنا دون أن نوليَّهم ما يستحقون من اهتمام، حتى بعد رحيلهم»... ولم يفت الحاج يونس أن يتحدث عن جنازة الراحل، حيث قال بهذا الخصوص: «في جنازته، سارت الدارالبيضاء كلها خلف نعشه.. الكثير من الشبان كانوا هناك أيضا.. أذكر أنه طلب قبل وفاته أن يُدفَن في مقبرة «سيدي مسعود»، كي يجاور قبر والده.. وأذكر أنه، يومَها، توقفت الحركة في الدارالبيضاء، إذ كلما علم الناس أن الأمر يتعلق بجنازة محمد الحياني ترجلوا عن الحافلات وعن عرباتهم ليسيروا خلف «هرم» عربي شامخ»... كما تأسف المتحدث لكون الراحل لم يتمَّ إنصافه، بالقول: «نحن لم نتنكر له، أبدا، إنما.. «فاقد الشيء لا يعطيه».. فللمرحوم مكانة خاصة في قلوبنا ولا نعتبر، أبدا، أنه قاد مات... وأقول لابنته حسناء: لكِ أن تفتخري، لأن أباك ما أحنى رأسه أبدا لأي كان... فقد كان «مليارديراً»، بأنفته وعزّة نفسه»... كما تحدثت سمية العلوي المدغري، التي وقعت، مؤخرا، إصدارَها حول الراحل الحياني، حيث قالت: «أصررْتُ على أن يكون توقيع كتابي «محمد الحياني، الوفاء والحنين».. في يوم رحيله (23 أكتوبر).. وهو كتاب تحدثتُ فيه عن أمور كثيرة، منها كيف عاش الراحل مع أغانيه ومع محبي فن هذا الشامخ، الذي كنا دائما نقول إنه أبدا لن يموت ودائما سيبقى حيا بيننا».. وتابعت الودغيري قائلة إن «عائلة المرحوم ساعدتني كثيرا في توفير معلومات حول بعض جوانب حياته الشخصية.. حيث ضمّنتُ مؤلَّفي هذا جوانبَ من طفولة الحياني وتحدثت عن البدايات الأولى لمساره الفني المتميز وآراء وشهادات البعض ممن واكبوا هذا المسار الحافل الذي خلَّف خلاله 34 أغنية، دون الحديث عن أغانيه الوطنية الكثيرة.. كما تناولتُ فترةَ ما بعد وفاته وأثرَ هذا الرحيل المُفجع على أسرته الصغيرة وعلى دائرة معارفه ومحبي فنه الجميل»... ومن جانبه، ذكر الإعلامي محمد بلفتوح أن «الحياني مات، جسدا، إنما عطاءً، سيظل حيّا على امتداد الأيام والسنين.. فصوته لن يتكرر أبدا.. والدليل أنْ لا أحد ممن يحاولون تقليدَه أفلحوا في أداء إحدى أغانيه بنفس الصدق والقوة التي أدى بها الراحل روائعه».. كما قال إن «إصدار كتاب عن الحياني بادرة طيبة ويجب تكريس هذا «التقليد»، الغائب عندنا، عكس ما هو عليه الحال في مجموع دول العالم، عبر الكتابة عن رواد الأغنية المغربية، التي أنجبت أسماءَ كبيرة يجب رد الاعتبار لها، من خلال إصدار مؤلفات تُعنى بالتأريخ لمساراتهم الفنية»، من قبيل ما قامت به الودغيري مع الحياني، وقبلها، أنور حكيم مع الراحل أحمد البيضاوي... وأشار بلفتوح إلى أن «الحياني تألق في السينما، أيضا، مع الراحل حسن المفتي، في فيلم «دموع الندم»، الذي كان مناسبة أخرى أثبت فيها الحياني صدقَ أدائه»، حيث إن الفيلم يعدُّ إحدى مفاخر السينما الوطنية. وإذا كان قد مات جسدا -يختم بلمقدم- فإن الحياني، بفنّه الأصيل، ما زال حيا في ذاكرة المغاربة قاطبة.. فلا يمكن أن تسأل أي مغربي عادي في الشارع دون أن يذكر «راحلة»، «من ضي بهاك» أو «بارد وسخون» أو غيرها.. وهذا من سِمات «العظماء» الذين، وإن رحلوا، يُخلِّفون عطاءاتهم، التي تظل خالدة في الأذهان على مر الأجيال».. كما تحدثت خلال البرنامج نفسه حسناء الحياني، ابنة الراحل، وكذا شقيقته الكبرى «فاطمة»، التي قالت إن أخاها «كان ثالث إخوته وأخواته الثمانية ونشأ في درب الشرفاء، قبل أن تنتقل العائلة إلى درب بوشنتوف.. كما كان، منذ أيام طفولته الأولى، هادئ الطبع، بشكل كبير، إلى درجة أننا لم نكن نعرف ما إذا كان موجودا في البيت أم لا»... كما أشارت شقيقة الراحل إلى أنه «كان أنيقا منذ صغره وكان، أيضاً، منبعا لا ينضب للحنان حتى علينا نحن إخوته الكبار، فبالأحرى الصغار.. لقد تركنا «يتامى» بعد رحيله.. (لم تتمالك دموعها)... كنتُ بالنسبة إليه في مقام والدته.. وكان يُقدّرني كثيرا.. وقبل رحيله بسنة واحدة، حقق «حلمه» القديم وأمنيته في أن «يجازيني» على ما فعلتُه من أجله ودفع عني ثمن الرحلة إلى الديار المقدَّسة من أجل أداء مناسك الحج»...