الأمر الذي أصبح مؤثرا على مشروع التغيير عن طريق الثورة يتمثل في تشوش المفاهيم لدى الكثيرين، والاعتقاد بمقولة "إمكان التغيير من الداخل" ومقولة "خذ وطالب"، بالإضافة إلى النظر للمشروع التغييري بحسابات الربح والخسارة، من جهة، والنظر إليه ضمن التوازنات الإقليمية والدولية، وإخضاعه للحسابات السياسية الدقيقة، من جهة أخرى. الثوريون لا ينظرون على الأمر من هذه الزاوية، بل يعتقدون أن الطرح الثوري له معاييره الخاصة ولا يخضع لحسابات الربح والخسارة أو توازن القوى أو المنطق الرياضي الدقيق، ولا ينسجم في جوهره مع المقولات المرتبطة بالممارسة السياسية مثل "المناورات السياسية" و"استعمال أوراق الضغط" والاعتقاد بان الغرب دائما يملك قرار الحسم في الإشكالات السياسية. وهكذا يقع أصحاب المشروع الثوري ضحايا ليس لسياسات النظام وقمعه فحسب، وليس لقرارات الغرب المعادية للثورة، بل لمواقف الفرقاء السياسيين الذين يساهمون، ربما بدون قصد، في إضعاف مواقف الثوريين بالتحاور مع النظام القائم أو إعلان القبول ببقائه أو الاستعداد للعمل ضمن أطره، فهذه جميعا تفتّ في عضد شباب الثورة وتؤدي إلى بلبلة مدمرة. الثوريون يؤمنون بالحل الثوري الحاسم، والسياسيون يمثلون "نصف ثورة" ويحركون الشارع ليس كخيار ثوري مستقل وحاسم بل لتحويله إلى "ورقة ضغط" تدعم مشروعا سياسيا آخر. الثوريون لا يؤمنون بتحويل الثورة إلى ورقة ضغط سياسية على النظام أو داعميه، بل يعتبرونها الطريق لحسم الموقف بدون تنازل أو تراجع أو مساومة أو إضعاف للصف الثوري. المصريون بشكل خاص يشعرون بحالة من الغبن بسبب ما حصل لثورتهم التي حصر التغيير فيها في التخلص من الرئيس وأبنائه، مع الاحتفاظ بنظامه كاملا. وأصبح المجلس العسكري هو النظام السياسي البديل للرئيس المخلوع. وكان أمرا غريبا جدا قبول الأحزاب السياسية بتسليم الأمور إلى العسكر الذين يعتبرون، في التاريخ السياسي، من أكبر أعداء الثورة وأقلهم حماسا إلى التغيير، بل إن هدف الجيش في أي بلد، ديمقراطي أو استبدادي، الحفاظ على النظام السياسي القائم ومنع سقوطه مع عدم التدخل في السياسة. المجلس العسكري في مصر استفاد من وجود ثنائية في الساحة السياسية المصرية بين الأحزاب والمجموعات السياسية، من جهة، والقوى الثورية، من جهة أخرى. هذه الثنائية ساهمت في تعقيد الأمور، ولكن الجيش يعرفها ويدرك حدودها، ويعلم سلفا أنها تزيد مسألة التغيير الشامل أمام قوى الثورة. وكان النظام العسكري المصري قد استهدف دعاة التغيير والثوار قبل انفجار ثورة 25 يناير. هذا المجلس هو الذي أنقذ النظام من السقوط بعد إزاحة حسني مبارك عن الحكم، ولكنه في الوقت نفسه يقدم نفسه إلى الشعب على أنه هو الذي حمى الثورة وأوصلها إلى حد إسقاط حكم الرئيس. ولذلك يسعى هذا الجيش إلى ضمان امتيازات خاصة تجعله العامل المرجح في أي خلاف سياسي مستقبلي أو جنوح نحو التغيير الشامل. وسعى قادة الجيش إلى إيصال رسالتهم واضحة للشعب عندما استخدمت عناصره في الشهور الأخيرة أشكالا مروعة من القمع ضد المتظاهرين، حتى أدخل الرعب في نفوس الكثيرين. وتعتبر واشنطن الجيش المصري صمام أمان لسياستها في الشرق الأوسط لأن مصر هي بوابة هذه المنطقة، ولذلك استطاعت واشنطن من خلاله احتواء الثورة وجعلته عراب التغيير والسلطة لدعم مرشحي منصب الرئاسة أو رفضهم. وربما اعتقد الإخوان المسلمون في البداية أن بإمكانهم استرضاء العسكر، وأن "الحكمة" في التعامل سوف تفضي إلى تعايش سلمي وإلى تحقيق ما يريدونه من نتائج، أهمها الانتقال السلمي للسلطة الى المدنيين. ولكنهم أدركوا الآن أن الجيش مفوض من الغرب بمهمة أساسية وهي الحفاظ على اتفاقات كامب ديفيد ومنع تحول مصر إلى المعسكر المقاوم للاحتلال الصهيوني. وأصبح الإخوان مخيرين بين خيار التراجع عن ثوابتهم كحركة إسلامية رائدة في العالم العربي، ومن ذلك رفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وإلغاء اتفاقات كامب ديفيد، أو الدخول في مواجهة مع المجلس العسكري. وعندما خرجت الأسبوع الماضي مظاهرة احتجاجية في الإسكندرية ضد استمرار حكم العسكر، خصوصا بعد أن رفض الضغوط البرلمانية لإسقاط الحكومة، عبّر الجيش عن موقفه من خلال المواقع الاجتماعية، وذلك بتوجيه تهديد مبطن ضد الإخوان وتذكيرهم بالتجربة التاريخية المرة بينهم وبين الحكم بعد ثورة 1952. نصف الثورة كارثة، فإما انتصار إرادات الشعوب أو العودة إلى العهود السوداء التي تهيمن فيها قوى الاستبداد والظلم والتعذيب.. إنهما خياران لا ثالث لهما؛ فمصر، التي وقفت في منتصف ثورتها لأسباب عديدة، تواجه هذا الخيار الصعب. ولكن المهمة هذه المرة ستكون أصعب لأن قوى الثورة المضادة استعادت قدرا كبيرا من مواقعها، وخبت شعلة الثورة في نفوس الكثيرين من شباب التغيير، وأصبح تحريك الشارع أصعب كثيرا مما كان عليه من قبل. وأحد أسباب ذلك تباين مواقف الطرفين الأساسيين للمعارضة: شباب التغيير والأحزاب السياسية التي عملت ضمن نظام مبارك قبل 25 يناير 2011 والتي أصبحت محكومة بأطر العمل السياسي الذي تطبع تدريجيا على السياسة والدبلوماسية وأصبح من الصعب عليه التحول إلى حراك ثوري في الشارع. وثورة البحرين هي الأخرى تعاني من الصراع بين القوى السياسية التي تعتقد أن الانخراط في العمل السياسي والدخول في مساومات من وراء الكواليس سوف يحقق مكاسب أكبر مما يحققه الحراك الثوري والتوتر الأمني. بينما يعتقد شباب ثورة 14 فبراير أن التوقف عن المطالب الأساسية للثورة، متمثلة في إسقاط النظام كاملا، سيكون انتحارا سياسيا. إنه صراع بين الثورة وشبه الثورة أو بين الثورة الكاملة ونصف الثورة. وحتى ثورة تونس مهددة بالنكوص على نفسها إذا لم تلتزم قيم الثورة التي تقتضي إزالة النظام البائد كاملا، ليس في هيكله فحسب، بل في عقليته ومبادئه وإيديولوجيته؛ فأنظمة الحكم العربية تأسست على الاستبداد ولا تستطيع أن تغير إيديولوجية أجهزتها لتكون "ديمقراطية". والرهان على إمكان تغير منظومة الحكم من الاستبداد إلى الديمقراطية محكوم بالفشل. إن هناك حاجة إلى تغير جوهري في نفسية العناصر المتصدية للعمل السياسي التي تسعى إلى تحقيق مكاسب فئوية أو حزبية أو فردية على حساب قيم الثورة والتغيير الشامل. إن نصف ثورة هزيمة كارثية، لأن أنظمة الاستبداد لا بد أن تقتلع كاملة، وبدون ذلك يبقى الجسد العربي كالمصاب بالسرطان الذي يستأصل الجزء الظاهر منه، وتبقى الخلايا السرطانية الصغيرة منتشرة في أجزائه الأخرى ما لم تعالج كيماويا أو إشعاعيا. إذا لم يحدث ذلك فسوف يعود السرطان مجددا أشد شراسة ليقضي على الجسد المنهك، فإما العلاج الكامل أو الموت المحتوم وإن كان بطيئا. نصف الثورة أخطر، وقد يكون أخطر من عدمها، والتغيير الذي تصممه الهندسة الأمريكية يكرس الاستبداد ولا يأتي بالديمقراطية، واسترضاء واشنطن يؤدي إلى التنازل عن مبادئ الثورة وقيمها ولا يحقق الديمقراطية. إن شباب التغيير مطالب بإكمال الثورة وعدم القبول بنصفها لأن ذلك خيانة لكل قطرة دم أزهقها المستبدون والطغاة والمحتلون.