يحل بي موسم الرجوع إلى مدينتي مثل عاصفة جارفة، أنقض عليها بجوع وشوق المغتربين، وأتمسح بجدرانها مثل قط يتيم، لأنني مقتنعة بأن هذه المدينة هي حتما قدري وجلدي الذي لا يفارقني، وأصبو عند كل زيارة لها إلى أن التقي بالناس والأماكن التي تساعدني على تقليب تاريخي الصغير، فهذا المكان ترك بداخلي من البواقي ما يكفي لكي أتيم به كل العمر. لكنني أصبحت مؤخرا أتلكأ في زيارتها ولم أعد أهفو إليها كما في الماضي، وبتُّ أفضل غربتي لأنني لا أتحمل أن أرى مدينتي التي ولدت وكبرت في حضنها تتحول إلى مكان سوداوي مظلم، بعد أن فقدت ضياءها وإشراقها الذي عهدته فيها بسبب كل تلك البنايات القبيحة التي تستطيل بداخلها كل يوم حاجبة عنها النور. كما أنني سأتوقف عن تلك العادة الساذجة التي كنت أزهو فيها بمدينتي أمام الغرباء، فهي قد أصبحت حقا قبيحة، ولن تنجح مساحيق اللغة في أن تزيح عنها هذا الرداء الرمادي الذي غدت تلبسه من فرط تراكم القذارة عليها. أعترف بيني وبين نفسي بأنها لم تعد ذلك المكان الذي تعلمت بداخله الحلم بالمستحيل، فهي مدينة لا تخجل من أن تعرض نفسها على الزائرين بأكوام من القمامة، وتستقبلهم بهذا الكم الهائل من البؤس والعجز وبكل هذه التشوهات التي تنمو بداخلها، فما أكاد أتوغل فيها حتى أكتشف مدينة أخرى لا أعرفها، مدينة أعثر فيها على كل أنواع التناقضات وتتزايد بداخلها أعداد بائعات الهوى والمتسولين والمعتوهين والمنحرفين كل يوم. لم أكن أتخيل حقا أن مدينتي، التي أنجبت رسامين وعشاقا وشعراء يحملون قلوبهم على أيديهم، ستصبح قاسية القلب إلى حد لم يعد معه أحد يستغرب أن تتجاور فيها مظاهر الثراء الفاحش مع الفقر المدقع في سلام، كل واحد يتأمل الآخر في صمت ودون تعليق، رغم المفارقة الصارخة التي تعكسها صورة تطل فيها البنايات العالية بعجرفة على دور منبطحة أرضا دون أدنى شعور بالذنب. ليس هذا هو المصير الذي كنت أتوقعه لمكان أحمله معي طوال الوقت وسكنني كل العمر، لمكان يهزني الشوق إليه في كل لحظة غربة وأعتبره استثنائيا بحيث لن تنجح كل مدن الدنيا في تعويضه، لأنني حين اكتشفته ذات طفولة توقعت له مستقبلا أفضل من أن يكون مكانا تنمو فيه كل أنواع الخطايا الشاذة ويحتمي بداخله عدد مؤلم من التائهين والناهبين والمعربدين، مكانا رائحته مزيج غريب من روائح الخمر الرخيص ومن تبول المارة على الأسوار ومن روث البهائم المخلوط بالغبار وبدخان السيارات والحافلات، فداخل كل هذا البؤس، تظهر مدينتي مجعدة مثل وجه عجوز، يصر البعض على أن يجعلها تتسع وتكبر منفلتة في كل الاتجاهات مثل وحش. أزور مدينتي لأجد أن الغرباء قد أخذوا موضعي بداخلها، وتركوا مثلي مدنهم وراءهم. ولأنها في نظرهم مجرد مكان، فهم لا يعاملونها ولا يحبونها مثلما أحببتها. لكن ما نفعُ حب نبوح به ولا نظهره؟ فأنا وباقي الآخرين الذين صنعتهم المدينة، كنا نراها تسقط منا كل يوم وشجرها يتضاءل عند كل زيارة، ومع ذلك لم نفكر أن نزرع في بطنها صفصافة أو صنوبرا، ولم نحاول أن نقبض على الذين يقطفونها في الظلام ويجعلون حالتها تسوء دائما. ورغم كل هذا الإحباط الذي يبعثه بداخلي منظر المدينة، سوف أظل أحلم مثل الأطفال بإعادة ترتيبها من جديد، وبجعل المتشردين والمتسولين والسكارى والمتشردين فيها أقل بؤسا وإثارة للحرقة في القلب؛ أما نصفها العتيق الواقف هنا لمئات السنوات بصوامعه وفسيفسائه المبهر، فهو الوحيد الذي يمنحني الأمل في أنه من الممكن أن يستمر فينا وبيننا بناؤون بارعون من نسل أجدادنا يشيدون مدنا تشبه تلك التي تركها القدامى، ويشبهونهم في ولعهم بالجمال والإتقان، لأنهم يؤمنون بمدينة أجمل وأنظف وأكثر تنظيما ومحبة، ويرون أن لها معاني أهم من أن تكون مجرد أطلال قديمة منسية، نقف فيها على الذكريات وحسب.