تغذي البجعة الخيال الأدبي بشعرية الأنثوي الخائض في المياه. فالبجعة تستدعي دائما عنصر الماء، على نحو رشيق يبعث على الحركة والنط والانتعاش. إن ذلك الخيط الفضي من النشوة الذي يندلع في جسد البجعة وهي تخوض في الماء النقي، يُحوِّل وجودَها إلى احتفال مغتبط بهبة الحياة التي تنبع من عمق ما في أصقاع المجهول، لتسري مع النسائم والتيارات. الجسد والماء ينعمان بسعادة اللقاء الإيروسي الذي يبعث على الحلم والخفة. هذا ما تجسده البجعة، وهي ترتجل في قلب المياه الزرقاء، كل طقوس المستحمة، بحسب التأويل الباشلاري الباذخ. حضور البجعة يبعث اهتزازات رشيقة فوق صفحة المياه، بعد أن تكون كهرباء الجسد قد مسَّت خيوطا مرهفة بجوف البحيرة. جدل العمق والسطح هو جزء من شعرية لقاء البجعة بالماء. ذلك اللقاء المفجر لرهافة عذبة ومعذِّبة في آن، مادامت تنوس بين التكتم والإفشاء، بين الخفاء والتجلي. وهنا لا يقوم الماء مقام اللباس فقط، بل تمتد أعناق أزهار البحيرة وأعشابها المتطاولة، لتشكل ذلك الخباء الطبيعي الذي يسعف المستحمة في صون السر: نبع الحياة. جزء رئيس من جمال البجعة وعريها يغرق في الماء، فتُوكل إلى الخيال مهمة الإنقاذ. لكن ما ينتجه الأدباء أيضا يستدعي مهمة إتقان السباحة وفن العوم، وإلا ستبقى الاستعارة الأدبية مغلقة على أسرارها، في فضاء المياه العميقة. في الكتابة، تتحول حركات البجعة إلى حركة لغة. وتكون اهتزازات الماء نتيجة تماس جسد الشاعر مع جسد اللغة التي تنبعث، في هذه الحالة، من عمق يوجد بداخل المبدع موصولا إلى الثقافي في تجسيداته الرمزية، الميثولوجية. واهتزازات الماء عند البجعة لها ما يقابلها من اهتزازات دوائر الخيال عند الشاعر. ومنها وعبرها تتأسس حياة شعرية خصيبة، تتدفق في تكتم، في قلب القصائد والدواوين، وتحتاج إلى سباحين مهرة، يكشفون بخبرتهم المتجددة بعضا من أسرارها. البجعة مستحمة وشاعر. هي أحدهما أو هما معا. نحن هنا أمام تأويلين مختلفين، لكنهما يجنحان، مع ذلك، إلى التكامل من زاوية معينة. فإذا كانت البجعة ترمز إلى الجمال الأنثوي الغارق نصفه السُفلي في المياه، فإن الشاعر هو ذلك السباح، المأخوذ بتجربة البجعة، الذي يجعل من جمالها وأسرارها المكنوزة في المياه موضوعا لرغبة لغته ولاشتهائها المدوخ. لكن هذه العلاقة، القائمة عبر اللغة ومن خلالها، لا تمنع من تحول الشاعر ذاته إلى بجعة مأخوذة بتجربة المياه العميقة المُحيطة بالسر. ولعله يكمن هنا بالضبط ذلك الجانب الأندروجيني الخفي، في شخصية كل شاعر سواء أكان رجلا أم امرأة. إن الإبداع، ومنه الشعر، هو، وفق رحابة هذا التأويل، محل لتجاذب الأنثوي والذكوري في جسد واحد. بهذا المعنى، يكون الشاعر سباحا وبجعة في آن. للبجعة أخُوات جمالية ورمزية أخرى تتقاسم معها حياة شعرية مكتنزة بأسرار المياه. هناك نرجس المعذَّب بجماله ورغبته المُستحيلة في معانقة الذات المرسومة على سطح الماء. هناك أوفيليا التي تَحَلَّل جمالُها في عكر مياه عذبة امتصَّت جسدَها وأزهارَها وترتيلَها بشفافية قاتلة. وهناك السِّرينات اللواتي يستدرجن البحارة، بأصواتهن العذبة، إلى وليمتهن بقيعان البحار المظلمة. هذه كلها أخُوات، تقيم في بحيرة الشعر، وينتشر إيحاؤها في ما يطفو على سطحه من أزهار المخيلة. أزهار غريبة حقا، يحار النقد في أن يعثر لها على أسماء. أخوات البجعة لا تفصح فقط عن بعض ما يختلج في أعماق الإنسان من قلق وخوف وهشاشة ورغبة، وإنما تفصح أيضا، وعلى نحو مأساوي، عن مجاورة الجمال للخطر، وتماس الفاتِن مع الهلاك المُحدِق باليد الراغبة.