بقدر ما كشف الربيع العربي مدى هشاشة علاقة النخب السياسية بالشارع الذي ظلت تتحدث باسمه لمدة طويلة دون أن يخضع ادعاؤها لأي اختبار، كشف عزلة المثقف عن مجتمعه وضعف تأثيره في محيطه، بل لقد كشف الحراك العربي العديد من الحقائق حول طبيعة الفعل الثقافي، من جهة، ونوعية الفاعلين الثقافيين، من جهة أخرى. إن الحراك العربي لم يكتف بإسقاط الأقنعة حول دور المثقف، حيث بدا أن دور هذا الأخير لم يكن محدودا في هذا الحراك فقط بل ناهض وشكل هو نفسه أحد العوائق التي حالت دون تفعيله. هناك سؤال يفرض نفسه: لماذا كان دور المثقف محدودا حتى لا نقول منعدما في الحراك العربي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، هناك ضرورة لتحديد مفهوم المثقف والدور الذي يفترض أن يقوم به. هناك تعريفان للمثقف: تعريف عام يجعل المثقف كائنا منتجا لأفكار من شأنها أن تصنع رأيا عاما كيفما كانت صيغ التعبير عن هذه الأفكار؛ وتعريف خاص يحدد المثقف في كونه ذلك الكائن القادر على وضع كل المسلمات محل تساؤل وتكريس منظومة قيم مرتكزة على فكر نقدي. إن تحديد وظيفة المثقف ترتبط بالتعريفين معا، فهما تعريفان متكاملان، ذلك أن المثقف هو الذي يساهم في صنع الرأي العام وتوجيه الأحداث عبر التطلع إلى المستقبل وعدم الارتهان إلى الماضي. إن المثقف لا يمكن أن يكون إلا عقلانيا مناهضا للنزعة الإطلاقية ورافضا للاستسلام لإكراهات «المقدس». إن اعتماد التعريف العام فقط قد يجعلنا مضطرين إلى إضفاء صفة المثقف على أشخاص لهم القدرة على التأثير في الرأي العام، ولكن في اتجاه تكريس قيم ذات أبعاد «نكوصية» تناهض التغيير وترفض الاختلاف؛ كما أن التعريف الخاص قد يجعلنا مضطرين إلى اعتبار بعض الأشخاص مثقفين لا لشيء إلا لكونهم يضعون كل المسلمات محل تساؤل دون أن تكون لهم قدرة على المساهمة في صناعة الرأي العام. لنرجع إلى سؤالنا حول الأسباب التي حجمت دور المثقف في الحراك العربي. إجمالا، يمكن الإشارة إلى سببين أساسيين: يتعلق السبب الأول بالاستتباع السياسي للمثقف. وهنا تطرح إشكالية الاستقلالية، فالمثقف وهو يعيش داخل فضاء يحارب النزعة الفردانية لم يستمد مشروعية وجوده من ذاته أو من الوظيفة التي يفترض أن يقوم بها، بل استمد مشروعيته من خلال الانتماء إلى قوى سياسية، سواء كانت متجسدة في السلطة السياسية الحاكمة أو في قوى المعارضة. إن الاستتباع السياسي للمثقف أفضى إلى وجود صنفين من المثقفين: مثقف مرتبط بالسلطة السياسية الحاكمة، والذي اختزلت وظيفته في تبرير الخيارات المنتهجة من قبل هذه السلطة؛ ومثقف مرتبط بقوى المعارضة، والذي اختزلت وظيفته بدوره في تبرير مواقف القوى التي يعتبر نفسه جزءا منها. والوضعان معا أفضيا إلى نفي ماهية المثقف وطمس وظيفته، فهو إما «مبرر» يمارس «البروباغندا» أو مناضل سياسي يدافع عن مواقف ظرفية محكومة بحسابات ضيقة عوض العمل على تكريس منظومة قيم تتجاوز ما هو «ظرفي» وما هو «سياسوي». لا يفيد الحديث عن استقلالية المثقف ابتعادا عن الاهتمام بالشأن العام والانخراط فيه، بل إن المثقف الحقيقي هو ذلك المتورط في هذا الشأن؛ غير أن تورطه يختلف عن تورط السياسيين، فإذا كان السياسي يستحضر في غالب الأحوال مجموعة من المصالح يروم تحقيقها، فإن المثقف يسعى إلى استحضار القيم الكبرى التي ينبغي أن تحكم تدبير الشأن العام بصرف النظر عن المتنافسين في الحقل السياسي، كما أن استقلالية المثقف لا تفيد عدم انخراطه في العمل السياسي المباشر من خلال انتمائه إلى تنظيمات سياسية يعتقد أنها تتقاسم معه القيم التي يؤمن بها، لكن الإشكال القائم في كثير من الأحيان هو عندما لا يتمكن المثقف من رسم الحدود الفاصلة بين وظيفته كمثقف وخياراته كفاعل سياسي. يعود السبب الثاني إلى هيمنة منظومة إعادة الإنتاج الثقافي، فالمثقف لعب دورا كبيرا في إطالة عمر الأنظمة السياسية الاستبدادية. والأمر هنا لا يقتصر على المثقف المرتبط بالسلطة السياسية الحاكمة فقط، بل يطال المثقف المرتبط بقوى المعارضة أيضا. وهنا يجب التذكير بأمرين: الأول ذو صلة بالتلازم الموجود بين السياسة والثقافة، فكل استبداد سياسي هو في حاجة إلى استبداد ثقافي؛ والثاني ذو ارتباط بآليات إعادة الإنتاج الثقافي، فإن الأنظمة السياسية الاستبدادية تتقوى في ظل وجود مثقف يحمل تصورات مضادة غير أنه يشتغل بنفس آليات اشتغال تلك الأنظمة الاستبدادية ويلتقي معها في تكريس مجموعة من القيم، كمناوأة الفكر النقدي ورفض الاختلاف وترسيخ النزعة الإطلاقية التي تفضي إلى تقديس الأفكار والأشخاص. إذا كان الاستتباع السياسي للمثقف قد أفرز صنفين من المثقفين: «مثقف» «مبرر» مرتبط بالسلطة السياسية الحاكمة ومثقف مناضل مرتبط بقوى المعارضة، فإن هيمنة منظومة إعادة الإنتاج الثقافي أفرزت بدورها صنفين من المثقفين: «مثقف أصولي» و«مثقف استئصالي». لا نقصد بالمثقف «الأصولي» ذلك المثقف المرتبط بالأصولية الدينية، بل نقصد به ذلك المثقف المرتبط ظاهريا بقيم الحداثة والعقلانية، غير أنه على مستوى الممارسة يعمل على إنتاج وتكريس أحد أشكال الأصولية المتمثلة في الأصولية الثقافية. وتعبر هذه الأصولية الثقافية عن نفسها من خلال العديد من المظاهر: أولها إضفاء ذلك المثقف نوعا من القداسة على أفكاره بحيث لا يخضعها لأي نقد أو مراجعة مستمرة أو ممتدة في الزمن؛ وثانيها محاولة اصطناع مجموعة من الأتباع لا يعملون إلا على ترويج تلك الأفكار. وهنا، يتم نقل علاقة الشيخ والمريد من المستوى السياسي إلى المستوى الثقافي؛ وثالثها ادعاء الشمولية، حيث هناك من يسمح لنفسه بالحديث في كل المجالات، يتحدث في الرواية وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي السياسة، ولا يسمح للآخرين بالحديث في أي شيء.. إنها الأصولية الثقافية التي تنتهي في آخر المطاف إلى الالتقاء بالأصولية الدينية، وهل هناك فرق بين المشيخة الدينية والمشيخة الثقافية؟ إضافة إلى الصنف الأول المتمثل في المثقف الأصولي، هناك الصنف الثاني المتجسد في المثقف الاستئصالي، وهو مثقف ينفي الآخر ولا يحترم الاختلاف، مما يجعله بعيدا عن المجتمع من خلال ممارسته لنوع من الاستعلاء الثقافي وقريبا من الأنظمة السياسية الاستبدادية من خلال عمله على تكريس الأحادية الثقافية.