قال الفيلسوف البريطاني إدموند بروك، ذات مرة، في إحدى مداخلاته الشهيرة ببرلمان بلاده: «لقد وقع حادث يصعب الحديث عنه ويستحيل السكوت عنه». تنطبق هذه القولة على بادرة نشر قائمة المستفيدين من «الكريمات». إنه حدث يسلط الضوء على حالة حيف وظلم كبيرين، ويستحيل التزام الصمت تجاهه. سيكون مخجلا التزام الصمت وعدم الحديث عن هذا الحدث، ولاسيما أن هذه المبادرة تعتبر الأولى من نوعها التي تنبري فيها حكومة مغربية، منذ حكومة الراحل عبد الله إبراهيم، لمواجهة مشاكل في العمق؛ إذ حصرت الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام بالمغرب، منذ تلك الحكومة، دائرة تدخلها في جوانب إشرافية وفي إطلاق إصلاحات قاصرة. وبنشر لائحة المستفيدين من «الكريمات»، يكون عزيز رباح، وزير التجهيز والنقل، قد وضع أصبعه على مكمن الداء في المجتمع المغربي. لقد وضع رباح أيضا، وربما دون أن يفكر في ذلك أو يرومه، أسس النسق المغربي تحت المجهر. رُفع «حجاب الجهل» الذي كان يحجب الحقيقة عن الرأي العام، وبات بديهيا أن تنجلي حقيقة «الكريمات» كاملة. كانت الدولة تقدم نفسها في صورة القوي والفاعل والموزع الأكبر للامتيازات؛ كانت الدولة تتوفر على الكثير لتعد به والكثير لتمنحه؛ كانت تسلك ألف طريق للتأثير على المناخ العام للأعمال والتحكم في مصير الأسر والحياة الخاصة للأفراد. وكان مستحيلا تقريبا تطوير أعمالٍ أو السعي إلى تحقيق طموحاتٍ دون إحاطة هذه الدولة علما بذلك مخافة بطشها أولا، وأملا في الاستفادة من رعايتها وامتيازاتها ثانيا، ألم يقل إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق: «الدولة في المغرب فاعل خير (يبقى أن نعرف لصالح من؟) للمجتمع». وعلى هذا الأساس، تحول المخزن إلى «راع» للأعيان والخدم الطامعين في انتهاز الفرص التي يتيحها النسق السياسي والاقتصادي المغربي من أجل تسلق الدرجات في السلم الاجتماعي. وبما أن الرغبة في الاغتناء بأي ثمن والركض وراء جمع الأموال ومراكمة الثروات والبحث عن الامتيازات تشغل بال الكثيرين وتعمي أبصار البعض، فإن المخزن حولها إلى حوافز لمن يقدر الحوافز ويتفانى في الخدمة. وفي ظل هذا الوضع، أصبح القرب من السلطة والتمتع برضاها يترجم على أرض الواقع بالحصول على الامتيازات بمختلف أنواعها.. كان الأمر أشبه بالتدافع من أجل جمع الذهب. وحتى الأحزاب السياسية التي تقول إنها تقدمية أغمضت الطرف عما كان يقع أمامها واختارت الصمت خدمة لمصالح بعض قادتها. بدا كل شيء كما وصفه الاقتصادي غالبريذ، في مقولته التالية: «يلتزم الفقراء والأميون عادة صمتا يخدم مصلحة الجميع». وفي ظل هذه الوضعية، أصبح توزيع «الكريمات» علامة فارقة في النسق المغربي، وسرعان ما تحولت إلى ظاهرة بصمت الفضاء السوسيواقتصادي للبلاد.. بلاد تحتضن فئتين من السكان: الفئة الأولى تعتبر نفسها ملكة البلاد وتتوفر على ثروات هائلة وتحصّلت على امتيازات عديدة، في حين تصنف الفئة الثانية في خانة الخدم الذين يتوجب عليهم الاقتيات على ما يتساقط من فتات من مائدة الأسياد. وقد أفضت هذه الثنائية، المرتبطة بشكل وثيق باقتصاد الريع، إلى ميلاد نظام الامتيازات وأسهمت في ترسيخه في الواقع المغربي. واقع تحولت فيه مفاهيم المساواة والنزاهة والعدل والحقوق إلى شعارات لتجويد الخطابات وتنميق التصريحات. إن مبادرة وزير التجهيز والنقل ستكون لها انعكاسات غاية في الإيجابية على المستقبل الاقتصادي والاجتماعي في حالة الإصرار على الذهاب بها إلى أبعد الحدود. الرهان كبير، لأن هذه المبادرة تضع أسس نسق برمته تحت المجهر. كما أن ذوي المصلحة في استمرار الوضع القائم متمنعون بقوة امتيازاتهم وسيادتهم الاقتصادية. وقد شبههم متتبع للشأن الاقتصادي الوطني ب«ذئاب تتبول من أجل تحديد دائرة نفوذها الترابي ثم تعض من تسول له نفسه اختراق تلك الحدود». حقيقة، يجب أن نعترف بأن هذا الوضع يعتبر من العوامل التي تزرع الإحباط وتقوي الاستياء لدى فئات عريضة من السكان. إنه حيف كبير يتوجب وضع حد له عاجلا، وهذا هو المطلوب من الحكومة الحالية بجميع مكوناتها، ولاسيما حزب العدالة والتنمية. لا يتعلق الأمر بإرساء دعائم وضع جديد مثالي، ولكن يجب العمل على الأقل على القضاء على مظاهر الظلم والحيف في المجتمع، وفي مقدمتها توزيع «الكريمات». ويبدو عامل الإخبار وتوفير المعلومة للرأي العام في الوقت الراهن أمرا غاية في الأهمية بالنسبة إلى مجتمع ألف الخضوع لوصاية الدولة، مع العمل على تدعيم معارضات حقيقية على نحو يؤهلها لفرض قواعد جديدة للعبة وتقوية آليات المراقبة وترسيخ الشفافية في مجال تدبير الشأن العام. وعلى هذا الأساس، لا ينحصر التحدي الأكبر للمغرب في تعويض نظام سلطوي بنظام ديمقراطي فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى ضرورة تفعيل هذه الديمقراطية وجعلها حقيقة ملموسة من قبل الأشخاص العاديين. ويفترض هذا الأمر أن يكون الحاكمون على استعداد تام لكشف جميع أوراقهم للمجتمع والعمل سويا معه من أجل كسب هذا التحدي، ولعل هذا ما دشنه وزير التجهيز والنقل بإقدامه على نشر لائحة المستفيدين من «الكريمات». لنستمر في المضي على هذا النهج، لأننا ما زلنا في أول الطريق.