في كتاب عمره 85 عاما، يطرح المفكر المصري سلامة موسى أفكارا صالحة لقراءة بعض جوانب الحياة العربية المعاصرة عن علاقة نظام الحكم بالدين والتعصب الديني واضطهاد البعض بسبب ما يؤمنون به من أفكار صادمة في البداية، إلا أنها «تفوز في النهاية» ويستفيد منها حتى أعداؤها. ويقول موسى في كتابه «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» إن «كل تقدم إنساني لا بد أن يكون مصحوبا ببدعة تتمثل في فكرة أو عقيدة دينية أو اكتشاف علمي ينكره الناس ويتأخر الاعتراف بهذه البدع». ولكنه يشدد على أن «الدين في ذاته لا يمكن أن يضطهد وإنما الذي يضطهد هو السلطة، الممثلة في الدين أو المستعينة بالدين، والذين يمارسون الاضطهاد هم رجال السياسة أو رجال الدين، ولكن الكهنة أنفسهم لا يمكنهم أن يضطهدوا أحدا ما لم تكن السلطة في أيديهم». ويتابع: «ما دام الدين بعيدا عن الحكومة، فإنه لا هو ولا كهنته يمكنهم أن يضطهدوا أحدا. أما إذا صارت الدولة والدين جسما واحدا أمكن رجال الدين أن يضطهدوا من يشاؤون وأن يقيدوا الفكر كما يشاءون، فالاضطهاد الذي كابده الناس في الماضي من رجال الدين إنما كابدوه لأن هؤلاء الرجال كانوا قابضين على السلطة في الدولة». ويوضح موسى أن «الاضطهادات التي وقعت باسم أي دين في التاريخ ليست عيبا على الدين في ذاته، ولكنها شهادة تاريخية على ما يمكن أن يفعله الحاكم حين يسخر الدين لأغراض سياسية». ويرى أن الحكام أكثر شغفا بالدين والتسلح به من شغف رجال الدين بأمور الحكم، إذ ربما يميل رجل الدين إلى الزهد أما الحاكم فهو يحتاج إلى الدين لترسيخ سلطته، مستشهدا بمطالبة مكيافيللي للحاكم ب»حماية الدين ولو كان هو نفسه لا يؤمن به، لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير وعلى تثبيت سلطانه». وتقع الطبعة الجديدة لكتاب موسى في 212 صفحة من القطع المتوسط وصدرت في الشهر الجاري ضمن «كتاب الدوحة». وموسى (1887 1958-) من أبرز رواد النهضة الفكرية في مصر وأحد مؤسسي تيار العقلانية مع أحمد لطفي السيد وعميد الأدب العربي، طه حسين، وشيخ الأزهر الأسبق، مصطفى عبد الرازق. وكتب موسى هذا الكتاب عام 1927، عقب أزمتين أثارهما كتابا «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق و«في الشعر الجاهلي» لطه حسين. ويقول موسى إن «الأفكار وحدها هي التي مات من أجلها المؤمنون بها، فلم يحدث أن ضحى إنسان بحياته من أجل طعام أو شيء يقتنيه وإنما من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها ولم يُقرَّهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضا عن ناس ضحّوا بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع»، مضيفا أن الثورة تكون الوسيلة إذا اتسعت الهوة بين جمود المؤسسات وضرورة التطور، التي يرى أن من أجلها شرب سقراط السم «راضيا». ويفسر ذلك قائلا إن «سقراط شعر أن شهوة التطور التي تنزع به إلى العلا أقوى من شهوة البقاء»، وكذلك فعل الذين آمنوا بالعقائد والأفكار الجديدة، وهذا يفسر كيف ضحى ألوف البشر وأريقت دماؤهم في كل العصور من أجل أفكار جديدة بشروا بها. ويرى موسى أن «للتعصب واضطهاد الأفكار الجديدة أسبابا منها الجهل والخوف، إذ إن طبيعة الجماعات البشرية تعتاد الجمود ولكن البدع تفوز في النهاية، لأنها وإن كانت تبدأ مع قلة من الأمة، فإنها لما فيها من ميزات تتغلب على العادات الموروثة. وكل تقدم للإنسان مصحوب ببدعة، ولولا ذلك لما تم اختراع أو اكتشاف»، رغم الدماء التي أريقت من أجل الأفكار الجديدة في كل العصور. ويستعرض موسى محاكم التفتيش في أوربا في العصور الوسطى وكيف قضت على ألوف البشر وكانت تتخذ صورا مختلفة، منها الاتهام بالهرطقة، «وكانت طائفة الرهبان الجوالين يتاجرون بالدين، يطرقون الناس وينزلون ببيوتهم يأكلون ويشربون هانئين في رغد، فإذا أحسوا بضجر أو إساءة، اتهموا رب البيت بالهرطقة ولم يكونوا يخشون شيئا، لأنهم كانوا يعرفون أن المتهم سيقر بالتهمة، لفرط ما ينال جسمه من العذاب». وأضاف أن «سلوك هؤلاء الرهبان ومحاكم التفتيش تسببا في صعود البروتستانتية وزيادة نزعة الإلحاد في أوربا». ويقول إن «اضطهاد بعض الخلفاء العباسيين، مثل المهدي والهادي، للملحدين يشبه اضطهاد الكهنة للهراطقة في محاكم التفتيش، رغم أن القرآن لم ينُصَّ على الخلافة.. والإنجيل لم ينص على البابوية.. البابوية والخلافة ترجعان إلى التقاليد المأثورة وليس إلى الإنجيل ولا إلى القرآن». ويرى سلامة موسى أنه «في كثير من وقائع الاضطهاد الديني في التاريخ، كان رجل الدين يتعلل بالدين وغايته، في الحقيقة، السياسة، ولولا المصلحة السياسية أيضا، لبقي الدين معتكفا وحده في جامع أو صومعة».. ويخلص موسى إلى أن «رجال الحكم ورجال الدين ينظرون إلى المختلفين عنهم في الرأي أو الدين -تسامحا أو اضطهادا- وفقا للسياق السياسي».