بعد اندلاع شرارة الثورات العربية في الجسد العربي منذ 17 يناير 2011، تعددت وتناسلت التحاليل السياسية حول رأس عود الكبريت المدبر لهذا الحريق العربي الذي شب دون سابق إنذار أو إرهاصات نذيرة أو خطط مبيتة... كيف، إذن، يتحول حادث ذو مطلب اجتماعي كان من المفترض أن يمر دون ضجة إعلامية مثلما مرت أحداث اجتماعية أشد فظاعة منه دون أن يهتز لها شارع واحد في أية دولة عربية من المحيط إلى الخليج، مثلما انتفض المجتمع في قرية (سيدي بوزيد) بتونس بعد أن أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار فيه جسده المقهور، واعتلى عرش عربته لتصير بذلك هذه الصورة الأسطورية المفصل الحاسم في التاريخ الحديث للأمة العربية على الإطلاق. فهل كان على الشعوب العربية التي ثارت على تحالف الاستعمار الأوربي في أواسط القرن العشرين أن تنتظر نصف قرن آخر كي تنتفض على حراس القمع والفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي من الرؤساء العرب؟ قد تصدق في هذه المرحلة التاريخية، أكثر من أي وقت مضى، المقولة التراثية العربية القائلة: «القشة التي قصمت ظهر البعير»، ومن جانبنا نقول بلغة المرحلة «دمعة المقهور التي أفاضت كأس الرئيس». لا شك أن بعض المنظرين والساسة الاستراتيجيين لمح إلى هذا الربيع العربي منذ تسعينيات القرن الماضي، في تلك العشرية التي وسمت بثورة إعلامية مفتوحة قادتها ملايين الجحافل من الصحون المقعرة التي نبتت على الأسطح العربية مع صعود نجم قناة «الجزيرة» كبديل في الملعب الإعلامي الشرقي عن قناة «السي إن إن» بعد حرب الخليج الثانية التي أضرمها الاجتياح الغاشم لجيوش الديكتاتور صدام حسين لدولة عربية شقيقة (الكويت). لكن إذا كانت هذه القناة الفضائية (الجزيرة) قد أسهمت بشكل وافر في إعادة ترتيب الركح السياسي العربي منذ أواسط التسعينيات، فإن انتشار الأنترنيت على المستويين الأفقي والعمودي ثم انخفاض تكلفة الربط الشبكي ودمقرطة الوصول الاجتماعي لتكنولوجيا المعلوميات والتواصل، كل هذه العوامل كانت السبب في ظهور أسناد جديدة للتواصل بين مختلف الفئات الاجتماعية (رسائل الإيميل، مواقع إلكترونية، منتديات، مدونات، مجموعات غوغل الإخبارية، وأخيرا شبكات التواصل الاجتماعية (الفيس بوك والتويتر ولانكندان ومايسبيس... إلخ)، وبذلك تعددت جسور التواصل كما تعددت الغايات من تداولها وارتيادها وبات من اليسير على كل الأطياف السياسية والإثنية والدينية والطائفية والإيديولوجية أن تصعد إلى الركح الإعلامي العالمي عبر النيت لتلعب دورها ولتعبر عن انشغالاتها ومواقفها وأفعالها وردود أفعالها أيضا في شأن ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم وما هو مرتقب أن يحدث غدا. دخول النيت على خط المواجهة السياسية والإعلامية والتواصلية سحب البساط، إلى حد ما، من تحت أقدام القنوات الفضائية العربية السيارة (الجزيرة العربية الحرة فرانس 24 روسيا اليوم BBC العربية... إلخ) مما حتم على هذه الأخيرة العمل على احتواء غريمها الجديد من خلال محاولتها تطويع آليتها وأدواتها الإعلامية الإلكترونية (إنشاء مواقع خاصة ببرامجها، إنشاء صفحات خاصة بشبكات التواصل الاجتماعي، إنشاء مواقعها على اليوتوب)، الشيء الذي مكن المواطن العربي من التواصل الفوري والمباشر معها، بل الأكثر من هذا أن هذه الوسائط الجديدة مكنته من تجاوز متاريس الرقابة السلطوية ومصفاة الضبط الإعلامية التي كانت تحول دون التعبير عن مواقفه من كل القضايا التي تشغله وتشغل الجماعة التي ينتمي إليها. وهكذا لاحظنا منذ اندلاع الثورات العربية في يناير 2011 كيف أن البعض من هذه الفضائيات العربية جمع معدات بثها وحزمت حقائبها وغادرت مناطق التوتر العربية، تاركة الدور للمراسل الجديد الذي يتجلى في (الشاهد عيان) المدجج بمعدات تواصل إلكترونية بسيطة لا تتجاوز جيب سترته (كاميرا تصوير شخصية أو هاتف محمول وحساب على الفيسبوك والتويتر واليوتوب وربط شبكي بالبيت أو بمقهى أنترنيت). ومما لا شك فيه أن السؤال المهيمن حاليا، في خضم هذا العصيان العربي من المحيط إلى الخليج، كثيرا ما يثار حول دور الشبكات الاجتماعية والمدونات والمواقع (المواطنة)، وبصفة عامة استعمال تكنولوجيا المعلوميات والتواصل لأجل غايات سياسية عامة وهادفة ودورها في إذكاء الحراك العربي، فقد بات الواقع العربي الراهن يستوجب إعادة طرح عدة أسئلة حول هذه الأسناد وفي سياق أوسع وأشمل، بحيث منذ اندلاع شرارة البوعزيزي في يناير 2011 ظلت تتردد هذه الأسئلة حول علاقات التكنولوجيا الحديثة بالحراك الديمقراطي العربي، وبشكل أكثر إلحاحا... هناك طائفة من الفاعلين الشبكيين المتفائلين بدأت تفرض وجهة نظرها حول عامل التعارض بين آليات التعبير الحر في العالم الشبكي وبين النمط التقليدي التراتبي الموسوم بعقلية التمركز التواصلي الإداري... إن هؤلاء المتفائلين قد أصبحوا يمجدون بطريقتهم الخاصة هذه الديمقراطية الشبكية الصاعدة، بل بدؤوا يرون فيها المنقذ من الضلال السياسي العربي الذي سوف يسهم بشكل أوفر في حركية الدمقرطة الاقتصادية العربية اللامادية. وقد تعاظم هذا التفاؤل وتقوى بسبب قدرة المواطن العربي على التفاعل وبسبب سرعة اعتماده على آليات معلوماتية متعددة وقدرته على التعبير دون رقابة، وقدرته أيضا على خلق مجموعات للتفاعل وردود أفعال دونما حاجة إلى حوار مباشر. فهل هذه التقنيات الحديثة قادرة على تمكين المواطن من المشاركة المباشرة في اتخاذ القرارات السياسية على شكل استفتاء إلكتروني فعال؟ إن بنية التواصل الإلكتروني الآني لا بد أنها ماضية بإصرار في إزاحة المؤسسات التمثيلية التقليدية وتجاوز بنياتها الهرمية، حيث الأوامر السلطوية تنزل من قمة السلطة إلى القاعدة الشعبية، وحيث المعلومة المحتكرة من طرف السلطة باتت تتضايق من تصاعد الميديا الذاتية (الشخصية) التي صار باستطاعة كل مواطن مثقف أن ينشئها ويمتلكها في مساحة شبكات التواصل الاجتماعي. وبفضل هذا الفاعل الجديد الذي حرر، دون شك، المواطن العربي من كل ارتباط مباشر بالسلطة سيصبح باستطاعته ومقدوره أن يعارض سيطرة ميديا السلطة بآليات تكنولوجية حديثة تسمح له بحرية التعبير التي لن يعترض طريقها الافتراضي أي متراس مادي، فقد أصبح يتوفر على المعلومة الثمينة والحاسمة بشتى الوسائل وبكثير من اليسر.. فهو لم يعد ذلك المواطن الخاضع للغة وخطاب ميدياتيك المؤسسة المهيمنة على المشهد الإعلامي دون ردود أو تعاليق أو تعقيبات أو أجوبة، بل أكثر من هذا فهو اليوم أصبح مراسلا ومنتجا في آن واحد للخطاب الإعلامي والمعلومة الحاسمة في القرارات السياسية، وقادرا أيضا بواسطة أدوات بسيطة (حاسوب وخط هاتف ثابت أو هاتف جوال أو كاميرا شخصية) أن يطلع العالم قاطبة على رأيه ووجهة نظره وموقف جماعته، لأن العالم الشبكي قد وفر له ولأقرانه إمكانية التجمهر عن بعد، أي ما بات يسمى بالتجمهر الافتراضي. في هذه المجموعات، يقرر الأعضاء انتماءاتهم بكل حرية ويجتمعون بدافع نفس الرغبات والحوافز ويفرضون هويتهم وخصوصياتهم بصرف النظر عن ضوابط القانون الاجتماعي والارتباطات الطبيعية والجذورية والحدود الجغرافية العربية التي ينتمون إليها. ما هي، إذن، مطالب هؤلاء الفيسبوكيين والمدونين في العالم العربي؟ - إسقاط الأنظمة القمعية الحاكمة التي أتى جلُّها مع رياح الحرب الباردة على ظهور الدبابات السوفياتية المصبوغة بلون القومية العربية؛ - مراجعة منظومة مؤسساتها الدستورية والقانونية الشكلية والقائمة أساسا على هدف واحد هو حماية اللفيف المستبد بالسلطة؛ - العمل على البحث في الآليات الحديثة من أجل دمقرطة الحياة العامة على مختلف الأصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ - ضمان حرية التعبير والمشاركة السياسية كيفما كانت، سواء على مستوى النقد السياسي أو على مستوى رفع سقف المطالب أسوة بالدول الديمقراطية الغربية؛ - المساواة الاجتماعية وتكافؤ الفرص أمام الجميع؛ - المزيد من التضامن والتعاضد بين أعضاء الجماعات الافتراضية التي مهدت وساندت هذه الثورات، وذلك بانخراطها الإعلامي الإلكتروني في تغطية الأحداث، سواء في شارع بورقيبة أو الساحة الخضراء أو ساحة التحرير أو في تعز باليمن أو درعا بسوريا. لكن في المقابل، ما هو رد فئة المتشائمين من هذا التسونامي الثوري الرقمي الشبكي؟ في رأي فئة التكنوفوبيين الذين دأبوا على التفكير بهاجس استباق الكوارث السياسية، فإن الفضاء الشبكي العربي -في نظرهم- يجب أن يخضع للسيطرة والضبط والاحتواء، بدعوى أن الزعم بفرضية تكافؤ الفرص والاقتسام العادل للثروات، سواء في المجتمع العربي أو العالم أجمع، يضمر في طياته أهدافا ماكرو تجاربة كونية ليس إلا... فهل ستقود نهاية سيادة الدولة العربية في العالم الشبكي إلى التراجع والتملص من مسؤولية المراقبة الجماعية للفئات المستضعفة التي باتت تنفلت منها أحيانا بعض الخلايا النائمة..؟ إن السيطرة على الرأي العام، والتي تتحقق اليوم باسم التقنية وبقوة تطور تكنولوجيا المعلوميات والتواصل في الوقت الراهن أو بضغط الحاجات الاقتصادية... سوف تفرض نفسها بشكل أقوى على المؤسسات التقليدية المتقادمة، فالهوة سوف تتسع بين الفاعلين في الثورة التكنولوجية، أي بين أولئك الذين يوجهونها استراتيجيا وبين من سيتأخرون عن قطارها ويمكثون قابعين في المحطة... إن تكنولوجيا التواصل والمعلوميات سوف تكون، دون شك، السبب في التراجع من المجال الخاص إلى فضاء مواطنة تختزل في التفاعلية الجماعية. وستقوم على أنقاض انهيار المؤسسات والوساطات الكلاسيكية المتعلقة بديمقراطية التمثيليات المنتخبة (برلمانات عربية أو مجالس الشعب... إلخ) التي دبرت في الغالب الشأن السياسي بنوع من اللامبالاة والديماغوجية والتلاعب والحرص على المصلحة الشخصية للمنتخبين. وأخيرا لنتساءل: هل يستطيع الأنترنيت أن يقودنا إلى ديمقراطية إلكترونية؟ ونقصد في هذه الخاتمة بالديمقراطية الإلكترونية المباشرة، النظامَ السياسي الذي سوف يمكن الشعب من تجاوز آلياته التمثيلية التقليدية ليعلن عن مطالبه وإرادته الجماعية باعتماد الأسناد الشبكية التواصلية الحديثة التي تحدثنا عنها آنفا.