التزم حزب العدالة والتنمية أمام الناخبين والرأي العام، خلال الحملة الانتخابية التي مكنته من احتلال الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة ومهدت له الطريق لقيادة الحكومة الأولى من نوعها في العهد الدستوري الجديد، بوضع حد لاقتصاد الريع الذي يعتبر إحدى دعائم النظام المخزني. يبدو هذا الحزب جادا وعازما على الوفاء بالتزاماته. غير أن النوايا الحسنة لا تكفي لوحدها لاقتلاع هذا الداء من جذوره، إذ يتطلب تحقيق هذا الهدف كفاءات عالية وقدرة على فهم الأطراف المستفيدة من هذا النسق من أجل وضع استراتيجية محكمة للقضاء على اقتصاد الريع، وهو ما لا يبدي فيه قادة هذا الحزب قدرا كافيا من التبصر. بتعبير آخر، كيف يمكن أن نفهم إقدام إسلاميي العدالة والتنمية على عقد تحالفات «غير طبيعية» مع بعض الأحزاب وقبولهم التنازل عن بعض الوزارات ذات الأهمية القصوى لتنفيذ استراتيجية محاربة الريع؟ وكيف يمكن تأويل تخليهم عن بعض الصلاحيات، من قبيل تعيين مدراء المؤسسات والمقاولات العمومية، التي كان من شأنها أن تسمح لهم بأن يتركوا بصمات خالدة على السياسات المعتمدة في تدبير الشأن العام بالمغرب؟ هل يتعلق الأمر هنا بسذاجة غير مطلوبة أم إنه يتعداها إلى انعدام الكفاءة؟ وكيف يمكنهم محاربة الريع إذا لم يبسطوا سيطرتهم على وزارة الاقتصاد والمالية ووزارة الداخلية ووزارة الصيد البحري ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؟ يبدو أن قادة العدالة والتنمية استعاضوا عن هذه الوزارات بحقيبة النقل والتجهيز ووزارة العدل، ونسوا أن هاتين الوزارتين تكتسيان طابعا تقنيا وتنفيذيا: وزارة التجهيز والنقل لا تتدخل إلا في رخص النقل بين المدن؛ ووزارة العدل لا يمكنها أن تعالج من الملفات إلا ما عهد به إليها، ولذلك تبقى باقي الوزارات الأخرى مربط الفرس في محاربة اقتصاد الريع، بالإضافة إلى إدارة الضرائب التي تتوفر على لوائح المستفيدين من الإعفاءات الضريبية وغيرها من الامتيازات الجبائية؛ وزارة الفلاحة والصيد البحري تتولى، من جانبها، منح رخص الصيد البحري، وأشرفت على تفويت أراضي الدولة (ضيعات شركتي «سوجيطا» و»سوديا»)؛ أما وزارة الداخلية فتوزع جميع أنواع الرخص والمأذونيات، مثل رخص بيع الخمور و»كريمات» سيارات الأجرة. ليس صدفة أن تصنف هذه الوزارات وزارات سيادية، وهو التصنيف الذي اختفى من النصوص التشريعية وظل راسخا وقائما على أرض الواقع. في الحقيقة، يجهل قادة العدالة والتنمية ماهية المخزن، فهم لا يعلمون بأن المخزن نظام قائم على الوقف والامتيازات؛ يجهلون أنه نظام يستمد شرعية من ولاء المحكومين للحاكم.. نظام يتوجب فيه على المحكومين الالتزام بخدمة الحاكم مقابل أن يترك لهم هذا الأخير هامشا واسعا ليُسدوا خدمات إلى أنفسهم. يبدو هذا الأمر بوضوح في خطاب وجهه الملك الراحل الحسن الثاني إلى ضباط الجيش بعيد المحاولة الانقلابية الثانية في 1972 حين قال: «راكموا الأموال، ولكن لا تمارسوا السياسة». وعلى هذا الأساس، كانت جميع القرارات التي اتخذت في تلك الفترة منسجمة مع هذا التوجه، سواء في عملية استرجاع الأقاليم الجنوبية للمملكة أو سياسة المغربة التي هدفت إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام القائم وتشكيل طبقة رأسمالية موالية له أو تفريخ مقاولات عمومية مكنت بعض الوصوليين من مراكمة ثروات هائلة في أزمنة قياسية. كان واضحا أن بلورة الأشياء تتم في تلك المرحلة على نحو يجعل من الريع وسيلة أساسية لتدعيم أسس النظام وتمتينها. استغرقت هذه العملية أزيد من خمسة عقود، وأصبح المخزن يتوفر على قواعد صلبة لا يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يهدمها. ومن هنا، تبرز حاجة قادة هذا الحزب إلى جرعات إضافية من الشجاعة للإقدام على تحدي هذا الوضع الذي يفرض نفسه على أرض الواقع. كما أن محاربة اقتصاد الريع تتطلب أيضا إقرار مشروع جريء وفتح نقاش وطني يمنح هذا المشروع دفعة قوية ويمكن الحكومة من تنزيله دونما عراقيل. أكيد أن المليون و200 ألف صوت، التي حصل عليها هذا الحزب في الانتخابات الأخيرة، غير كافية لتحدي نظام كرس جهده خلال الخمسين سنة الماضية لتحصين نفسه وتدعيم وجوده. وبهذه الطريقة، لن يستطيع العدالة والتنمية أن يخلد اسمه في تاريخ المغرب في مجال محاربة الريع. وإذا كانت استراتيجية هذا الحزب تقوم على حصد «الحب والتبن»، فإن مصيره سيكون، بكل تأكيد، مماثلا لمصير حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي تبنى من قبل المقاربة ذاتها وآلت مجهوداته إلى الفشل، وهكذا هوى في سلم الشعبية من الحزب الأول بالمغرب في سنة 2002 إلى قوة سياسية من الدرجة الثانية في الوقت الراهن. باختصار، تتمثل مأساة أحزابنا السياسية في كونها ترتكب أخطاء فادحة تقلص حظوظ بقائها، والمخزن بدوره لا يسمح لها بالعمل إلا إذا أذابها وصهرها في طنجرته. غالبا ما يترك لها هامشا واسعا لانتقاد ما يبدو لها مشينا في المشهد السياسي من أجل رفع مستويات شعبيتها، ثم يجبرها بعد ذلك على الامتثال للأمر الواقع لتستمر على قيد الحياة. ومن ذا الذي لا يتذكر الشعبية الخارقة التي تمتعت بها حكومة عبد الرحمان اليوسفي لحظة تنصيبها وكيف تحولت بسرعة البرق إلى مجرد «فقاعة سياسية» نجمت عنها خيبة أمل واسعة لدى الرأي العام في العمل السياسي، وهذا ما يحلينا على قولة مشهورة لسياسي مرموق: «من الجيد اختيار الحكام عن طريق الانتخابات، لكن يستحسن ألا يعتمد عليهم في إقرار التغيير».