وصل عدد قتلى الانتفاضة السورية ضد نظام بشار الأسد منذ مارس من العام الماضي حتى الآن إلى حوالي 8000 قتيل، إضافة إلى آلاف الجرحى، مدنيين وعسكريين، لكن الانتفاضة لا زالت مستمرة وتعد بطابور إضافي من الضحايا. سوريا -التي كانت في الماضي عنوان الرفض، كما يقال، في الجبهة العربية- تحولت اليوم إلى رمز للدولة الاستبدادية التي تنكل بشعبها دفاعا عن شلة من أصحاب النفوذ المتحلقين حول الرئيس، ومع ذلك ما زال النظام السوري وأزلامه يؤكدون أن سوريا بوابة للصمود في وجه إسرائيل والأجندة الأمريكية في المنطقة، يعني هذا أنه لا بد من قتل شعب بكامله من أجل أن تستمر الخدعة القديمة التي كانت الأنظمة العربية السابقة تبرر بها الاستفراد بالسلطة والعنف واقتسام الثروات بين حفنة من المستفيدين، مثل النظام العراقي في عهد صدام حسين أو النظام الليبي في عهد معمر القذافي، فقد صنع جميع الحكام في العالم العربي أساطير بسيطة لإلهاء الشعوب وتكريس الحكم الفردي ومنع التعددية، مثل الدفاع عن القضية الفلسطينية أو تحرير القدس، وفي أحيان كثيرة بناء الدولة الديمقراطية وإنشاء مشروع قومي للتنمية، وظهر في الأخير أن هذه الشعارات كانت للاستهلاك المحلي فقط، وأن الهدف منها إدامة القبضة الحديدية ومنع الناس من الكلام بحرية، مثلما كان يقال في مصر أيام جمال عبد الناصر, مثلا «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وقد كان هذا يعني أن لا أحد سيسمع آلام الشعب وصرخاته لأن صوت المعركة بالطبع أقوى وأكثر ضجيجا. النظام السوري الحالي لا يزال يعيش في هذه المرحلة.. رِجْل في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ورجْل أخرى تضرب في رمال الستينيات من القرن الماضي، ولذلك لم يستطع أن يستوعب أن يهب الشعب للمطالبة بالديمقراطية والحرية أو بحقه في تغيير النظام واختيار من يحكمونه، لأن هذا يعتبر جريمة في الأنظمة البالية التي اعتادت أن تمنح المواطنين الحقوق التي تريد هي متى أرادت وأن تمنع متى أرادت المنع، مثل من يوزع الإعانات على الناس للأعمال الخيرية شفقة عليهم. لكن السوريين ليسوا ضحية نظامهم فحسب، فالوضع في سوريا وحولها يشبه كومة من الصوف بها دزينة من المسامير التي يستحيل أو يصعب فكها بسهولة. الإيرانيون لا يريدون للوضع السوري أن يتغير لأنهم غير واثقين في أي نظام قد يخلفه، وهذا معناه أن الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة ستجد نفسها أمام لوحة إقليمية غامضة تفرض إعادة رسم تلك الاستراتيجية من الصفر، فدمشق تشكل دعما خلفيا لطهران في لعبة الحرب أو السلم في المنطقة. لكن وراء الدور الإيراني يقف الدور الأمريكي الذي يروج للحرب ضد نظام طهران بيد أنه في العمق يبحث عن ترتيبات معها، لأن واشنطن تدرك أن التفاهم مع إيران خير من خوض الحرب معها ألف مرة، وتعرف أن الوضع في العراق أصبح عبئا ثقيلا رغم الانسحاب وأن إيران لاعب رئيسي في الداخل لا يمكن تجاوزه، وتدرك واشنطن، أكثر من ذلك، أن إيران موجودة ولن تزول، ثم إنها دولة شيعية ولن تصبح من الغد واحدة من المحور السني، لذا فإن التفاهم معها أكثر ربحا من عدم التفاهم الذي لم يقد إلى أي شيء طيلة العقود الماضية. لكن أين الدور العربي؟ من المهم أن نضع هذه المعادلة في التحليل: الجامعة العربية تريد عقد مؤتمر كبير في العاصمة القطرية الدوحة من أجل القدس، وتسعى إلى الخروج بقرارات حاسمة تفرضها على إسرائيل، لكنها في نفس الوقت تعجز عن اتخاذ قرار واحد يوقف حمام الدم في سوريا وينقذ السوريين من الإبادة، وهذا أكبر تناقض تعيشه الجامعة العربية التي ما زالت مصرة على أن تعطي لنفسها أكثر من قدرتها، لأن الجامعة نفسها ليست في الأصل سوى التجميع الحسابي للأنظمة العربية العتيقة التي تجاوزها الربيع العربي، أو تجاوز بعضها، وما زالت تفكر بنفس المنطق: الخروج بشعارات فارغة للتذكير بوجودها، فإذا كانت عاجزة عن فرض قرار واحد على دمشق فكيف يمكنها أن تفرض قرارات متعددة على تل أبيب؟