في الأسبوع الماضي، رحل عنا علامة مغربي من نمط خاص، هو الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله، الذي كان نموذجا فريدا في البحث العلمي، لكن رحيله مر في صمت كبير، إذ لم يلتفت إليه أحد، خصوصا أن الراحل عاش في السنوات الأخيرة من عمره منعزلا في بيته بسبب المرض والشيخوخة، عاكفا على مواصلة جهوده في خدمة البحث العلمي والتاريخي والديني. والحقيقة أن الراحل عبد العزيز بن عبد الله كان طودا شامخا في مضمار الفكر والثقافة، وعلامة موسوعيا جال في مختلف أصناف العلوم بحثا وتوثيقا، وخلف للمكتبة العربية والمغربية أزيد من مائة كتاب في عدد من المعارف باللغتين العربية والفرنسية. وفوق ذلك، كان يبهر كل من يجالسه بأحاديثه المتواصلة في جل المعارف، حيث ينتقل بمخاطبه من موضوع إلى آخر بموسوعية قل نظيرها، بل انعدم في الوقت الحالي، فهو ينتقل بك من التاريخ إلى الفلسفة، ثم إلى التصوف والفقه والجغرافيا، بسلاسة، لكي يضيء لك مناطق الظل في قضية معينة، تكتشف معها أن له ذاكرة قوية قادرة على استعادة المعلومات بدقة متناهية، حتى كأنك في جولة داخل مكتبة مفتوحة. ولد عبد العزيز بن عبد الله، رحمه الله، في نوفمبر من عام 1923، وفي عام 1943 حصل على شهادة الباكالوريا ثم الإجازة في الآداب والحقوق عام 1946 من جامعة الجزائر. وفي بداية الاستقلال، عمل في الصحافة الوطنية حيث اشتغل في جريدتي «العلم» و«الاستقلال» وأشرف على إدارة معهد عبد الكريم لحلو بالدار البيضاء. وفي 1957 تولى الإدارة العامة للمحافظة العقارية ومصالح الهندسة، ثم إدارة التعليم العالي والبحث العلمي من 1958 إلى 1961، ثم إدارة المكتب الدائم للتعريب، التابع لجامعة الدول العربية طوال ربع قرن منذ 1962. عمل الراحل أستاذا للحضارة والفن والفلسفة والعلوم الإسلامية بكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط، وأستاذا بجامعة القرويين ودار الحديث الحسنية، وانتخب عضوا في المعهد البيوغرافي الأمريكي عام 2001، كما انتخب من طرف المعهد الدولي البيوغرافي كأول رجل بيوغرافي عالمي طيلة سنوات 1997 و2001 على التوالي كل سنة، عرفانا بعطاءاته العلمية الزاخرة. وخلال مسيرته العلمية الطويلة المثمرة، درس العلامة الراحل أو حاضر، باعتباره أستاذا زائرا في عدة جامعات عربية وغربية، مثل أكاديمية العلوم بموسكو وجامعة «هاله» بألمانيا الشرقية وجامعة «كراتشي» والمعاهد الإسلامية في لاهور بباكستان وكلية «الشريعة» بعمان وكلية الشريعة بتونس وجامعة «الكويت» وجامعة «باث» ببريطانيا ومعهد «إيفان» بداكار. وشغل الراحل عضوية العديد من المحافل العلمية، حيث كان عضوا بلجنة الإشراف على الموسوعة العربية الكبرى بدمشق، برئاسة نائب رئيس الجمهورية السورية، وعضوا في الموسوعة العربية بلبنان والموسوعة العربية بالقاهرة، وعضوا بأكاديمية المملكة المغربية وبالمجامع العربية ببغداد ودمشق وعمان والقاهرة، وعضوا بالمجمع العلمي العربي بالهند، وعضوا مؤسسا لجمعية الإسلام والغرب الدولية بجنيف، وعضوا بمنظمة حقوق الإنسان العالمية بواشنطن، وعضوا بالمجلس التنفيذي لاتحاد المترجمين الدوليين بوارسو ونائبا لرئيس البنك العالمي للكلمات التابع لليونسكو، وممثلا شخصيا للمدير العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومستشارا بنفس المنظمة بجدة. وقد حصل الراحل على عشرات الجوائز العالمية والعربية الكبرى، فقد حصل من المركز البيوغرافي العالمي على 14 جائزة الأولى، من بينها جائزة القرن العشرين للإنجازات عام 1998 وجائزة ألف شخصية مبدعة في العالم عام 1999 وجائزة المربي العالمي عام 2004 وجائزة أهم مائة مرب عالمي عام 2005، وحصل على جائزة المعهد البيوغرافي الأمريكي والجمعية الثقافية الموحدة ببريطانيا، وغير ذلك من الجوائز الكثيرة نظير بحوثه العلمية وخدمته للبحث الموسوعي، بالإضافة إلى مشاركته في عشرات المؤتمرات الدولية والعربية، بينها العديد من المؤتمرات الإسلامية المسيحية كواحد من كبار المفكرين المسلمين، مثل المؤتمر الإسلامي اليهودي المسيحي بفرنسا في نهاية السبعينات مع تسعة علماء، بينهم ثلاثة مسلمين، والمؤتمر الإسلامي المسيحي بفاس عام 1979، والمؤتمر الإسلامي المسيحي بالسينغال. ألف الراحل عبد العزيز بن عبد الله العشرات من الكتب والموسوعات، فقد ترك 14 كتابا باللغة الفرنسية في الفكر والتصوف والتاريخ والفن المغربي، وحوالي 45 معجما في مختلف الحقول، من بينها «المعجم الطبي المبسط مع شوارد طبية»، «معجم العظام»، «معجم الدم»، «معجم الأحجار والفلزات والمعادن»، «معجم الحرف والمهن»، «المعجم الصوفي»، «معجم النبات ومعجم الزهور»، «معجم الفيزياء»، «معجم السماكة والأسماك»، «معجم السكر والبنجر الشمندر»، «معجم الألوان»، «معجم السيارة»، «معجم الفقه والقانون»، «معجم البناء»، «معجم الرياضيين بالمغرب الأقصى»، «معجم المغرب التاريخي» وغيرها. وألف الراحل عدة معلمات حول القبائل والمدن بالمغرب، من بينها «معلمة الرباط» في جزئين، و«معلمة المدن والقبائل» و«معلمة الصحراء»، و«معلمة الفقه المالكي»، و«معلمة المفسرين والمحدثين»، و»الموسوعة المغربية للأعلام الحضارية والبشرية»، وغيرها من الموسوعات والمعلمات، إضافة إلى العشرات من الكتب، من بينها مثلا «الرحلات الحجازية صلة وصل بين شقي العروبة»، «بحث في التصوف: الدلائل الحقيقية لأسماء الله الحسنى وانعكاساتها على الحياة المعاصرة»، «التقريب بين اللهجات العربية: نماذج من المصطلحات الدارجة بالمغرب الأقصى» ، «الألسنية ودعم المعجمية العربية»، «اللغة العربية وآثارها وراء المحيط الأطلنطيكي»، «بين بصرة المشرق وبصرة المغرب»، «الدلالاتية المقارنة في خدمة تاريخ الحضارة»، «الخرائطية والمدن العتيقة بالمغرب»، «أثر الفقه المالكي في التشريعات الغربية» وغيرها. ونختم هذا المقال عن الراحل بالإشارة إلى أنه كان واحدا من كبار علماء الطريقة التيجانية في العالم، ومرجعا أساسيا للطريقة يتم الرجوع إليه في جميع التفاصيل، وربما كان حضوره خارج المغرب أكثر وزنا من حضوره داخل بلاده التي توفي فيها دون أن ينتبه إليه أحد. وقد جاء في البرقية الملكية في تعزية الراحل عرفانا بعطاءاته: «وإننا لنستحضر في هذه اللحظة المؤثرة مدى الرزء الذي ألم بالمغرب، بفقدان أحد علمائه البارزين، الذين جمعوا بين المناقب الأخلاقية العالية والتضلع في العلوم الإسلامية وتاريخ المغرب وحضارته، والمشاركة الوازنة في مختلف الأكاديميات والجمعيات العلمية الدولية، والتصنيف في مختلف العلوم والفنون، والإشراف على تحرير الموسوعات والمعاجم، وإصدار الدوريات التي عم نفعها وذاع صيتها داخل المغرب وخارجه».