حين روعنا الدم الذي سال في بورسعيد عقب المباراة البائسة بين فريقي الأهلي والمصري، فإننا لم نتوقف عند كَم البذاءات التي تداولها مشجعو الفريقين منذ بداية المباراة. وفي أجواء الصدمة التي أصابتنا جراء العنف الذي حدث والضحايا الذين سقطوا، فإن ملف البذاءات والألفاظ الفاحشة التي تطايرت في فضاء الملعب ظل مغلقا ولم يتطرق إليه أحد. وإذ أفهم أن يستأثر بالاهتمام موضوع الضحايا وملابسات الكارثة والموقف المريب لأجهزة الشرطة، باعتبارها من العناوين العاجلة التي يتعين التعامل معها، فإن العاجل لا يلغى ما هو ضروري، والبذاءات التي يتم تداولها في الملاعب من ذلك الجنس الأخير، باعتبارها تجسيدا للتفرقة المحزنة بين الرياضة وبين الأخلاق. سألت من أعرف من خبراء الرياضة: لماذا تنهى المباراة إذا تم التراشق بالطوب والزجاجات الفارغة، ولا توقف إذا جرى التراشق بالألفاظ البذيئة والفاحشة؟ في الرد قيل لي إن ذلك كان يحدث في الماضي، ولكن ضغط الرأي العام بات قويا وانتشار ظاهرة التراشق اللفظي البذيء والجارح صار واسعا بحيث إن حكم المباراة أصبح يخشى أن يتعرض للاعتداء والإهانة إذا ما أوقف المباراة. كذلك، فإن قادة أجهزة الشرطة، الذين توكل إليهم عملية «تأمين» المباريات، كانوا ينصحون بالتساهل مع مثل تلك الممارسات، تجنبا لحدوث ما هو أسوأ. قيل لي أيضا إن البرامج الرياضية التي تبثها قنوات التلفزيون اعتادت على أن تشحن الناس بثقافة التعصب للنوادي، دون أن تعنى بالجانب الأخلاقي للرياضة. أضاف هؤلاء أن ثورة الاتصال واتساع نطاق التعامل مع شبكة التواصل الاجتماعي من العوامل التي فتحت الأبواب واسعة لكل أشكال التعبير المهذب وغير المهذب، الأمر الذي أدى إلى الترويج لأنماط من الثقافة الهابطة التي لا تخضع لأي نوع من التنقية أو التوجيه الرشيد. أضاف آخرون أن النظام السابق الذي ساءت سمعته وأصابه الفشل في مجالات التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وجد في الرياضة فرصته الوحيدة لإثبات التفوق وادعاء الإنجاز، لذلك فإنه أطلق لها العنان واستثناها من أي ضبط أو ربط. شجعه على ذلك أنها كانت وسيلة لإلهاء الناس وتعويضهم عن إحباطاتهم في عالم السياسة، كأنما أراد النظام السابق أن يشغلهم بالرياضة لكي يتولى من جانبه شؤون السياسة والاقتصاد والإدارة. قد تكون هذه التفسيرات صحيحة، لكن الأصح، في رأيي، أن ما يحدث في ملاعب كرة القدم من بذاءات من جانب الجمهور -ومن بعض اللاعبين أحيانا- هو انعكاس لما يحدث في الشارع، الذي أصبحنا نسمع فيه الكثير مما يجرح الأذن ويخدش الحياء. وكل الذي حدث أن الملاعب توفر فرصة اجتماع عدد كبير من الموجودين في الشارع، وأن المباريات تشيع بينهم حالة من الانفعال يتم التعبير عنها بوسائل مختلفة في التشجيع أو الهجاء والتقريع. وإذا جاز لي أن أذهب إلى أبعد، فلعلي أقول إن الشارع المصري يجسد أزمة التربية في البلد، إذ المعلوم أن المدرسة لم تعد تربي والإعلام يدغدغ المشاعر ولا يهذبها، والأهل ما عادوا مكترثين لتربية الأبناء، فهم إما مشغولون طول اليوم بالسعي وراء الرزق أو أنهم يستثمرون أوقات فراغهم في متابعة التلفزيون. وإلى جانب أزمة التربية، فهناك أيضا أزمة النموذج الذي تحتذيه الأجيال الجديدة. وحينما تكشفت فضائح النظام السابق بعد الثورة، فإننا عرفنا أي نوعية من الناس كانت تتصدر الواجهات وتجسد المثل العليا التي سادت المجتمع طوال الثلاثين سنة الماضية. في كتابه «طبائع الاستبداد»، ربط مؤلفه عبد الرحمن الكواكبي بين الاستبداد وتدهور الأخلاق وانحطاطها في المجتمع، وقال إنه يؤثر على الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها.. وإن أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب ولا شرفا غير معرض للإهانة.. وأقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق.. وأنه يعين الأشرار على إجراء غيّ نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية. لست أشك في أن لدى أهل الاختصاص ما يقولونه في تحرير المشكلة وكيفية علاجها، وهو ما ينبغي أن ننصت له ونسترشد به. إلا أن أكثر ما يهمني في اللحظة الراهنة هو الاعتراف بأن الشارع في مصر إلى إعادة تربية، وأن بذاءات اللسان والكلمات الجارحة ليست شجاعة ولا هي فضيلة، ولكنها من قبيل قلة الأدب التي ينبغي استنكارها في الشارع قبل مباريات كرة القدم.