جميع الدول تملك مطاراتها الرئيسية في عواصمها إلا المغرب، فمطاره الرئيسي في النواصر، بيد أن الطريق إلى مطار محمد الخامس يعج بالصور التي تبقى محفورة في ذهن المغادرين لتراب المملكة، على طول الطريق تنتشر أحزمة الفقر، أكواخ قصديرية يصر أصحابها على اقتناء صحون مقعرة للارتباط بالعالم، وحقول من أكياس البلاستيك السوداء التي تبدو أشبه بقطيع غربان متعبة، بين الفينة والأخرى تظهر بضع بقرات وبجانبها نسوة يجلسن على كراس خشبية مهترئة ويرتدين ملابس مغربية ويخضن في أحاديث لا تنتهي، صور تنزل كرذاذ مطر خفيف على جوانب الذاكرة، يدخل القطار فجأة إلى النفق ويتوقف القطار الذي يشبه ميترو أوروبيا متقاعدا، وتبدأ حملة التفتيش بنزع كل شيء تقريبا، وبداخل المطار يلتقي المسافرون للحظات قبل أن يتوزعوا على الطائرات المتجهة إلى مختلف مناطق العالم، تلوح بين الفينة والأخرى فتاة بجلباب مغربي وماكياج مبالغ فيه أحيانا، ويحدث أن تطلب منك إحداهن بعد اجتياز نقط التفتيش أن تساعدها في حمل حقيبتها، بمجرد ما تستجيب لطلبها ترقبك العيون أكثر من السابق، وتسألك هي بذكاء أنثوي: هل أنت ذاهب أيضا إلى دبي؟، قد يكون جوابك ب»لا» متجمدة، دون معلومة إضافية، وهنا يخيم البرود علي لهجة الحسناء المغربية الذاهبة إلى جنة الخليج، وتشكرك بابتسامة أقل امتنانا. سائقو الطاكسيات يمسحون بأعينهم جميع القادمين، ويلقون في وجهك سؤالهم المعتاد بمجرد رؤية الحقائب التي تزيد من قصر قامتك وحبات العرق التي تنزل على جبينك، ويقولون بدون تردد: «شي طاكسي آ الخاوة»، بعضهم لا يتوقف عن إلحاحه حتى تقول له شكرا بلهجة صارمة. تقلع الطائرة صوب مدريد، تهتز عجلاتها، ومع ارتفاعها في السماء يصبح الوطن مجرد حقيبة، بعد فترة يلوح المضيق من فوق وجزيرة ليلى الملتصقة بالشواطئ المغربية بدون علم أو ماعز، يلوح نهر الوادي الكبير الذي يخترق مدينة إشبيلية من أعلى وكأنه أفعى مازالت تحمل اسمها العربي القديم، وبعد دقائق تبدو متسارعة تنزل الطائرة في مدريد، تبدو طائرات شركة «سبان اير»، التي تعرضت إحداها لكارثة، راقدة في مستودع المطار كأنها في عطلة مفتوحة، برد مدريد القارس يلفح وجهك بمجرد النزول من الطائرة، يتراكض المهاجرون المغاربة وركاب آخرون بمجرد وصولهم إلى قاعة الاستقبال حتى يظفروا بالصفوف الأولى في ختم جواز السفر والخروج أولا، شرطة الجوازات الإسبانية لا تهمها مهنتك أو سنك، يرمي الشرطي بكلمة «هولا» (مرحبا) بشكل بارد، ويدقق النظر مليا في جواز السفر وبطاقة الإقامة، ثم يصيح بصوت مسموع: الذي يليه. بعد ختم الجواز في بهو المطار، يبدأ عالم آخر بقيم مختلفة، شابان يذرفان دموع الوداع ويتبادلان القبل، وشاب يبدو من مظهره أنه مثلي يمشي بطريقة مختالة، لكن كل شيء نظيف وسائقو سيارات الأجرة ينتظرون بانتظام في الخارج دورهم، لا أحد يهتم بأحد، ينزل البعض إلى الميترو الذي يغوص في الأنفاق، وبداخله ينهك ركابه أنفسهم إما في قراءة كتاب أو سماع الموسيقى، في انتظار أن يخرجوا مرة أخرى إلى العالم العلوي، حيث الجميع يركض بحثا عن كسرة الخبز في عالم لا توجد فيه مساكن الصفيح أو النسوة الطيبات المصابات بداء جلد الوقت واستجداء المطر.