لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل نالت الشعوب مبتغاها من هذه الانقلابات؟ هل استطاعت الشعوب العربية أن تجد ذاتها مع الوضع الجديد؟ ما نصيب الشعوب من «الثورية» و«البعثية» و«الناصرية» و«القومية»؟ الواقع أن ما حصل في العالم العربي هو سرقة حلمه في الاستقلال والتحرر، مما جر عليه عقودا من صناعة التخلف رغم وجود ثروات تقدر بتريليونات الدولارات.. فسياسيا، تم استحداث نظام جديد عرف في السياق الجديد بالنظام «الجملوكي» العربي.. نظام جديد هجين غريب، يحق لفقهاء الدستور أن يحاروا في طبيعته إن هم أرادوا استجلاء حقيقته، فلا هو بالملكية التقليدية المتعارف عليها دوليا، ولا هو بالنظام الجمهوري الرئاسي الذي يتداول فيه الناس السلطة بواسطة صناديق الاقتراع. ومع شيوع هذا النظام العنيد البليد، ساد اعتقاد باستحالة «تغيير ما هو قائم»، خاصة وأن الحاكمين القائمين بأمر الله الجدد هم حكام دمويون لا يعصى لهم أمر ولا يرف لهم جفن ولا تلين لهم عاطفة أو تشفع عندهم قرابة أو تأخذهم رحمة، بأيمانهم خزائن الدولة وعساكرها، يعطون لمن شاؤوا بسخاء، ويحرمون من غضبوا عليه بجحود وجفاء. وكان من الطبيعي أن ينبلج الصبح بعد طول انتظار.. وهنا كان جسد البوعزيزي تجسيدا لفجر الفلاح وفلق الصباح. من جنوبتونس المنسي، من سيدي بوزيد انطلقت شرارة ثورة التغيير لتعم العالم أجمع وليس تونس فحسب.. تغيير طال أنظمة عتيدة، فسقطت عائلة بنعلي، أو بالأحرى ليلى الطرابلسي التي كانت تتهيأ لخلافة زوجها بعد أن علمت بمرضه العضال. كما سقط آل مبارك والقذافي الذين كانوا قد أنهوا الترتيبات الأخيرة للتوريث. وقديما، سبق آل الأسد فورثوا الجملكية السورية لبشار من غير تحفظ أو معارضة تذكر. فمن يجرؤ؟ الآن، والربيع العربي قد حط الرحال فسكن الديار وأوقد النار، فعلى الباقية المتبقية من الطغاة أن تسعد الجماهير بإقامة مراسيم الدفن وقراءة الفاتحة ترحما على الشهداء وليس هؤلاء الحكام المستبدين، بل إن التغيير وشرارة البوعزيزي وتوهج جسده تخطت البحار والمحيطات صوب عواصم عالمية كبرى، فرأينا الشباب الغاضب على حكامهم -هم أيضا- الذين سرقوا أرزاقهم لسنين عديدة تحت يافطات مغلوطة ومسميات مخادعة: الرفاه الديمقراطي الرأسمالي.. رأيناه يستلهم روح البوعزيزي وثورة تونس وميدان التحرير المصري لتتجسد في حركات احتجاجية عالمية سمت نفسها في الولاياتالمتحدة مثلا ب«احتلوا وول ستريت».. جسد البوعزيزي رمز للتوهج من أجل الكرامة للربيع الديمقراطي في الوطن العربي بلا جدال، ولكنه أيضا قبس للتضحية بالنفس من أجل التطهير.. وقبس لاستلهام القوة المعنية. تقول سيدة عاملة بحرقة وإباء: «23 عاما جثم بنعلي على صدورنا وكتم أنفاسنا، وفي 23 يوما قلعناه»؛ أما الحاج احمد الحفناوي، العامل في مقهى بالمحمدية في ضاحية تونس العاصمة، فيقول: «هرمنا، هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية»، وبها صار يعرف «سيدي أحمد هرمنا». واليوم، وبعد سنة من الانتفاضة البريئة والعفوية لمحمد البوعزيزي ضد الظلم، يحق لقلب أمه الثكلى أن يرتاح ولو قليلا حين ترى بلدها تونس وقد انتفض ليرسي نظامه الديمقراطي الحديث الذي كان ابنها يتوق إليه ولا شك.. نظام سيقوده هذه المرة حزب كان أبناؤه هم أيضا في الزمن الغابر من ضحايا النظام المخلوع.. إنه حزب النهضة الإسلامي. أما روح البوعزيزي فعليها أفضل الصلاة والدعاء بالرحمة والتنعم في جنة الخلد بالقرب من النبيئين والشهداء والصديقين، آمين.