كنت في ديوان «حامل المرآة»، اخترت موضوع القتل الذي طال عددا من المفكرين والفلاسفة والكتاب، ليس لأنهم أجرموا في حق أحد أو نهبوا أموال البلاد أو كانوا سراقا محترفين أو قتلة، فهم كانوا أصحاب أفكار، وسجنهم أو قتلهم كان نتيجة أفكارهم، بدءا من سقراط ومرورا بالمسيح، وصولا إلى بشار بن برد والحلاج، وغيرهم ممن اختاروا التعبير عن أفكارهم بجرأة. من يعود إلى تاريخ الكتابة وإلى سير عدد من الفقهاء والمفكرين والكتاب والشعراء، سيجد أن هؤلاء سجنوا أو عذبوا وقتلوا بسبب آرائهم وأفكارهم التي كانت معارضة للفكر السائد أو فيها نقد لنظام الحكم الذي ليس هو الحاكم بالضرورة، بل من يشكلون حاشيته والمتنفذين في الدولة من أصحاب المصالح والامتيازات، ممن يكون لهم نفوذ ويصبحون هم الحكام الفعليين، أو من يؤثرون في القرارات المصيرية للبلاد. حين نعاقب الناس على السرقة أو على القتل والفساد، فهذا أمر لا يتنافى مع القانون ومنطق الأشياء، لكن حين نعتقل أو نقهر شخصا أو نقتله لأنه كتب أو عبر عن رأيه في ما يجري، فهذا يكشف عن طبيعة النظام وعن علاقة هذا النظام بالفكر وبحرية والرأي والاختلاف. لغوبلز، وهو من النازيين القريبين من هتلر، قولة شهيرة، عبر من خلالها عن علاقة السلطة بالمثقفين والكتاب، وتبرم السلطة من النقد. كان غوبلز يردد دائما أنه حين يسمع كلمة مثقف، يتحسس مسدسه بيده، مما يشير إلى طبيعة اللغة التي كانت السلطة تتقنها باستمرار، في علاقتها بالمثقفين، وهي لغة القتل. هذا ما عبرت عنه في «حامل المرآة» شعرا، وحاولت من خلاله أن أدين كل ما يتعرض له الإنسان من إقصاء أو تهميش أو مصادرة أو قتل، لمجرد أنه عبر عن فكرة أو رأي، وهذا ما عشته شخصيا وخبرته. السلطة لا تحاور، فهي وجدت لتصادر، وهذا هو منطقها عبر التاريخ. وللسلطة، هنا، أكثر من وجه وأكثر من لسان، وليست بالضرورة سلطة الدولة، رغم أنها هي الأشرس والأكثر ضراوة ضمن أنواع السلط المختلفة. عودتي إلى هذا الموضوع، ما جرى بصدد اعتقال الشاعر والصحافي رشيد نيني الذي كان يكتب فقط. لم يحمل مسدسا، ولم يعترض طريق أحد، ولم يثبت أنه اختلس أموالا عامة، فهو سجن، لأنه كان ينتقد، وكان يفضح، وكان يعبر عن فكرة ورأي، هما في نهاية المطاف رأي وفكرة رشيد نيني، ولمن كانت تزعجه هذه الأفكار أو تبدو له غير صحيحة أن يسلك طريق النقاش والرد والتكذيب، وحتى حين يبدو أن هناك مسا بعرض شخص ما، سواء في صورته المادية أو الرمزية، فثمة طرق يكفلها القانون، عليه أن يتبعها، لكن وفق حقوق مكفولة للطرفين، وليس وفق أحكام مملاة أو جاهزة، وهو ما جعل الجميع، اليوم، يطالب بضرورة استقلال القضاء وعدم تبعيته لأي كان. فالدولة التي يساوي فيها القانون بين الجميع، لا يعبأ فيها الناس بالفروق في الأرزاق أو في الطبقات، وهو ما كان حاول الروائي نجيب محفوظ أن يقوله في روايته العجائبية «رحلة ابن فطومة»، فالمساواة في الحقوق هي تعويض عن الحيف الاجتماعي الذي يأكل حياة الناس دون هوادة. لا يمكن لبلد يريد أن يكون ديمقراطيا، بالمعنى الذي أعطاه الفكر التنويري لمعنى الديمقراطية، أن يصادر الأفكار أو يعتقل الشعراء والكتاب والصحافيين أو يضعهم في مواجهة السلطة، باعتبارها المحدد لقواعد الكتابة ولشروطها وحدودها أو خطوطها الحمراء. الفكر الحر هو نفسه الديمقراطية واختلاف الرأي، وهو نفسه الفكر الذي جعل سقراط يرفض الهروب من السجن، رغم وجود فرصة للهروب، وفضل الدفاع عن نفسه أمام من اتهموه بإفساد فكر الشبيبة وبالمس بمكانة الآلهة، وقبل بالديمقراطية التي كان هو من المدافعين عنها، واختار تناول السم والموت، بدل أن يتنازل عن أفكاره التي هي اليوم مما يستضيء به الفكر المعاصر في التمييز بين سلطة اختارت القهر والقتل وبين شخص كانت الكتابة والفكر طريقه نحو البقاء. أليس في بقاء سقراط إدانة لزمنه، ولمن حاكموه قهرا، رغم أنه لم يحمل سلاحا لمواجهة النظام، فهو كان صاحب فكرة، وكما قلت في لحظة من لحظات «حامل المرآة»، فهو حتى حين مات، وضع الشمس في جيبه ورحل. فهل ثمة من يعيد الشمس إلى مكانها؟