العلاقة بين الكتابة والقمع العلاقة بين شيئين متنافرين يروم أحدهما (القمع) التضييق على الثاني (الكتابة) ومحوه وإلغاءه، نظرا إلى دوافع إيديولوجية أو دينية أو سياسية، لكنها، أيضا، علاقة يضطر معها الكاتب أو المثقف، عموما، إلى تبنّي وسائل تعبير وأساليب لغوية معيّنة للتعبير عن أفكاره وآرائه، بشكل غير مباشر، عبر التحايل على الرقيب أو الهيأة الممارِسة للقمع. لا تطال هذه الإكراهات الأفكار وحدها، بل تطال الأفعال، أيضا، عبر إلغاء حرية التفكير والتعبير وتعويضها بضرورة التوافق مع الخطابات الرسمية للأنظمة القمعية. عبر هذه الطريقة بالذات تنتشر الأفكار المدعومة من طرف الأنظمة الحاكمة وتلزم شرائح عديدة من الساكنة بالاقتناع بها والدفاع عن القمع والعبودية، كما لو أنها (أي الساكنة) تدافع عن حريتها ليس هو الذي يولد الاقتناع، لأن كل ما يستطيع فعله هو تعبيد الطريق أمام الصمت. إن حرية التفكير هي إمكانية الاختيار بين الآراء المختلفة التي تطرحها أقلية من الكتاب المعروفين. وإذا ما صارت هذه الإمكانية مستحيلة، فإن الاستقلالية الثقافية تنمحي وتندثر، رغم كونها العامل الأساس في السياسة، باعتبارها أساس الاشتغال بالشأن السياسي. أما القمع فهو العنصر المحدد ل«الدوكسا» (doxa)، أي نمط التفكير الواحدي المفروض، الناهض على مجموعة من الثوابت والمسلَّمات المفروضة. يعتمد القمع الفكري، على مستوى الخطاب، على تكرار نفس المقولات باستمرار، رغم أنها تكون، أحيانا كثيرة، مكونة من نسيج من الأكاذيب، بهدف إقناع العدد الأكبر من الناس، انطلاقا من أن المقولات التي يتم تكرارها تصير، بالضرورة، صحيحة، ينضاف إلى ذلك نزوع الناس، تلقائيا، إلى تصديق الحقائق التي يتم تأكيدها من طرف أفراد مسؤولين ومحترمين، أي يحتلون مراتب ومسؤوليات عليا، ويذهبون إلى تكذيب الأفراد العاديين واعتبار أقوالهم مجردَ أكاذيب، مهما كانت صادقة.. نخلص هنا إلى القول إن حقيقة خطابٍ ما تكون مؤكدة وثابتة كلما كررها الحاكم، مرارا، دون أن يجرؤ أي كان على معارضته وتكذيبه. يقود هذا، بالضرورة، إلى القول باستحالة أن يقبل الأفراد، أي الكتاب والمثقفون الذين يضطلعون بفكر حقيقي ومستقل، بثقافة «الدوكسا» ومسلماتها الثبوثية الواحدية، التي تسندها الهيآت الرسمية للأنظمة الحاكمة. لا يمكن للقمع، في ظل هذه الشروط، أن يحول دون حرية التفكير والفكر المستقل، مهما كانت درجته ونوعيته ونمط اشتغاله، وأن يلغي أنماط التعبير عنها. من الدال هنا الإشارة إلى أنه بإمكان الأفراد، تلك الأقلية المبدعة والمفكرة بالذات، التعبير عن آرائهم وإيصالها إلى أشخاص جديرين بالثقة أو إلى أصدقاء عاقلين وعقلانيين. كما أن القمع لا يمنع، بالضرورة، من التعبير عنها، باعتبارها حقيقية اختلافية، في الساحة العمومية، وإيصالها إلى العدد الأكبر من الناس، مهما كانت درجة اختلافها مع ما هو سائد، شريطة أن يلتزم الشخص بالحذر، وكتابتها ونشرها على القراء، شريطة أن يتقن الكتابة بين السطور، باعتبارها تقنية الكتابة المثلى للتعبير عن الأفكار في زمن القامعين والقتَلة. إن من آثار القمع الكبرى إجبار المبدعين والكتاب على توخي الحذر والتقيَّة وإلزامهم، ضمنيا، ببلورة تقنية خاصة في الكتابة لترجمة أفكارهم المختلفة عن السائد، إيديولوجيا وسياسيا واجتماعيا، ومداراة تلك السلط الرمزية، المسلحة بعنفها الإيديولوجي والمادي أحيانا. إن الكتابة بين السطور مجرد تعبير مجازي، وإذا ما أردنا الإحاطة به، معرفيا وخطابيا، فإننا غالبا ما نفضي إلى منطقة الغموض وانعدام التحديد، خصوصا أن هذا التقنية في الكتابة تضم مستويات أسلوبية ولغوية وبلاغية ودلالية من الغنى والتنوع والتفرد بالنسبة إلى كل كاتب على حدة، حيث يصعب الوقوف عندها بشكل تام ونهائي. يشير الواقع الفعلي إلى العديد من النماذج في هذا السياق، إذ من الصعب، مثلا، أن نتصور أن مفكرا أو كاتبا أو مؤرخا يعيش تحت نظام شمولي في الحكم ويكون عضوا موثوقا منه في الحزب، أي عضوا فوق الشبهات، تقود كتاباته أو أبحاثه أو دراسته التاريخية إلى التشكيك في صحة الرواية الرسمية، للتاريخ أو الدين أو الثقافة... إلخ. لقد رأينا ذلك في العديد من السياقات التاريخية بصدد علي شريعتي، المفكر الإيراني الذي تم اغتياله بعد الثورة الإسلامية، والكثيرين الذين فروا من إيران، ورأيناه بصدد حامد أبو زيد وغيرهم. إن صعوبة معارضة الرواية الرسمية أو التشكيك في صحتها تقود المثقفين والكتاب، الذين يتعايشون مع أنظمة الحزب الواحد ويعيشون من خيراتها، إلى تبني المداهنة والنفاق في كتاباتهم والاهتمام بالتفاصيل الصغرى التافهة والمعارك الجانبية وتوظيف الكثير من الاستشهادات والإحالات لإغراق نصوصهم في سيل من الأفكار الجزئية التي لا جدوى منها، وحتى إذا ما اقتربوا من الفكرة الهامة التي تسند خطابهم الإقناعي فإنهم يعبّرون عنها بإيجاز في بضعة سطور، كما لو أنها مجرد فاكهة محرّمة يلزم تقديمها للقراء اليقظين بالكثير من الحذر، حتى لا تنفتح أعين الساهرين على الرقابة والقمع الفكري. لقد رأينا، عبر تاريخ الأدب والفكر العالميين، كيف أن كُتّابا ومفكرين، رغم ارتباطهم الوثيق بأنظمتهم، ظلوا يزرعون هذه الفواكه المحرَّمة في كتاباتهم، لأن القمع يولد البحث عن تقنية في التعبير، عن نمط معين من القول الأدبي، يعبّر عن حقيقة المسائل الكبرى والعويصة، من خلال تقديمها وكتابتها بين السطور، أي عبر تقنيات أسلوبية ولغوية مجازية. ليس وحده الأدب المكتوب هو المعنيُّ بذلك، بل حتى الأدب الشفوي، ويكفي الإنصات إلى الأغنيات والقصائد الشفوية للوقوف عند التقنيات التي يعبر من خلالها الشعراء الشعبيون عن أفكارهم حول الجنس والدين والسياسة. لا يتوجه هذا النمط من الأدب الذي يمارس الكتابة بين السطور لكل القراء، بل لشريحة محددة من بينهم، أي قارئ ذكي ويقظ وجدير بالثقة، يتمتع بنصوص الكاتب ويستوعبها، ضمنيا، دون الاضطلاع بالمجازفة التي يُعرّض الكاتب نفسه لمخاطرها. يتكلم الكاتب مع الأقلية اليقِظة من القراء، بينما يظل صامتا ومنسجما في برجه العاجي بالنسبة إلى الأغلبية التي تُدين صمته وانسحابه وتعتبره شيئا سلبيا، دون تجشُّم مصاعب قراءة نصوصه وفهمها. أحيانا كثيرة، يكتفي الكاتب اليقظ من كل قبيلة القراء، ولو بقارئ واحد يقظ يستوعب معاني كتابه ومغازيه، لأن هناك قراء آخرين أذكياء، يقدمون خدمات للأنظمة القمعية، حين يكتشفون الأبعاد الخفية للكتابة عند كاتب أو مثقف ما، ويشُون به للسلطات. وتكفي الإشارة إلى محنة الكثير من الكتابات والرواية والدواوين العربية، التي كتب عنها تقاريرَ للمخابرات كتاب آخرون في العالم العربي، كما وقع مع رواية «وليمة لأعشاب البحر». لقد وُجِد قمع الفكر المستقل ومورس في الكثير من العصور والسياقات التاريخية، مما فرض على الكثير من الكتاب والفلاسفة توخّي الحيطة والحذر، في التعبير عن أفكارهم بذكاء، بل إن فيلسوفا هاما، مثل سينوزا، اضطر إلى التخلي عن إصدار مؤلفاته قيد حياته بعد الحملة الشرسة التي خيضَتْ ضده حين نشر رسالته في اللاهوت والسياسة تحت اسم مستعار، ولم تصدر تلك المؤلفات إلا بعد وفاته، بمجهود من أصدقائه. رغم ذلك، فإن قمع الفكر الحر ليس موحَّداً في كل السياقات التاريخية، كما أن كل كاتب على حدة كان يمارسه بطريقته الخاصة في الكتابة بين السطور. لقد رأينا كيف جابه كافكا القمع الأبوي والأسري بنصوص سردية شبيهة بكوابيس يكتب فيها عن كائنات إنسانية تتحول إلى حشرات وعن معسكر العقاب وغيرها من النصوص، للتعبير عن رفضه الضمني لِما هو سائد في محيطه، وكانت الكتابة الأدبية وسيلته لترجمة أفكاره بطريقة غير مباشرة. ولعل «رسالة إلى الأب» تعتبر قمة إبداعية في هذا السياق. ينبغي القول إن الكتابة بين السطور تظل، بالنسبة إلى الكثير من الكتاب والفلاسفة، معرضة لسلطة الكليشيهات والأحكام الجاهزة. نحن لا نعرف، إلى حد الآن، مثلا، هل كان ابن رشد معاديا للأديان، هل كان مجرد أسطورة مرتبطة بالقرون الوسطى، أم، في نهاية المطاف، كما أثبت ذلك دارسون متخصصون، مجرد مسلم ورع. لا نعرف، أيضا، هل كان طه حسين مفكرا علمانيا ليبراليا أم مجرد مفكر ديني، كما دلت على ذلك كتبه المتأخرة. ولا نعرف كيف يكون شاعر أدمن الكتابة بين السطور، مثل أدونيس، شاعرا مطلق الحداثة على طريقة رامبو في الشعر، وغامضا متأرجحا في مواقفه السياسية. لقد كان الروائي الفرنسي الرائع سيلين، صاحب «رحلة إلى أقاصي الليل»، مبدعا بالفعل، تماما كما كان واضحا في مواقفه السياسية الرجعية، التي عبّر فيها عن عنصريته ومعاداته للسامية، وهو الوضوح السياسي الذي قاد حتى أشد أعدائه إلى عدم الخلط بين المواقف السياسية للكاتب وإبداعاته الروائية الهامة. لقد تعددت مظاهر القمع من أكثرها شراسة، كما تمثلت في محاكم التفتيش، إلى الاتهام بالزندقة، كما حدث مع بعض المتصوفة، إلى التهميش والإقصاء الاجتماعي. إن التاريخ الثقافي أو الأدبي يحفل بأسماء الكثير من الكتاب والفلاسفة الذين تعرضوا لذلك، مثل هوبز وسبينوازا وروسو والحلاج وابن عربي وابن رشد وغيرهم ممن عانوا، بشكل من الأشكال، من القمع، بمختلف تجلياته. ذلك ما يطرح الكثير من التحديات على القارئ والمؤول من أجل تحليل وتأويل طبيعة الأفكار والملفوظات التي تنتجها هذه الكتابة بين السطور، لأن شرعية التأويل لا تتحقق إلا إذا استند القارئ أو الدارس إلى الدراسة المتمعنة لأقوال الكاتب الواضحة وملفوظاته الصريحة، انطلاقا من معرفة السياقات التي قيلت فيها وطبيعة منطق عرضها والأهداف الكامنة وراءها. إنها، عموما، الإستراتيجية التأويلية التي يتم تبنيها عند قراءة أو تأويل ما يمكن تسميته «النص المقموع»، لمعرفة محتوى الفكر المستقل، الكامن خلف دلالاته الظاهرة، لأن معايير «اقتصاد الحقيقة»، في هذه الحالة، لا تكون معطاة سلفا ومصرحا بها. أمام هذه الكتابات التي تُكتَب تحت سلطة القهر، غالبا ما نكون بصدد نصّيْن: الظاهر والباطن، وهو ما يتطلب، بالضرورة، أن تتصف القراءة بالحصافة والنزاهة، حتى تنصف الكاتب أو الفيلسوف. عبر هذه القراءة، نقف عند انبجاس الحقيقية داخل الفكر، عبر كتابات ونصوص هرمسية لا يكون من السهل قراءاتها وتأويلها. ليست هناك، إذن، من توافقات بين الفكر والإبداع من جهة، والسياسة، من جهة أخرى، إلا في أحسن العوالم الممكنة. والاعتقاد في التوافق لا يعني، بالضرورة، وجوده، وهو ما يجعل العلاقة بين الكتابة المسكونة بهواجس الإبداع الحر والمستقل، ملزمة، باستمرار، بمجابهة العديد من السلط القمعية، متعددة المحتويات والهويات.