قرأت في المصري اليوم (15/9/2008) عموديّ مجدي الجلاد وسليمان جودة. يحكي الأول حكاية رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى المتهم بتدبير قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، في مسكنها بأحد أبراج دبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة. ويذكر أن التحقيقات كشفت أن رجل الأعمال قد أنفق اثني عشر مليون دولار على المطربة، ثم مليوني دولار أخرى للتخلص منها على يد قاتل، هو ضابط شرطة مصري سابق. وكان هذا المبلغ يكفي لبناء ألفي شقة لأبناء الدويقة! أما القصة الثانية التي يحكيها سليمان جودة، فهي عن رجل الأعمال الأمريكي البليونير وارن بوفيت الذي تبرّع منذ عام بكل ثروته (حوالي مليار دولار) لأعمال خيرية ومشروعات تنموية داخل أمريكا وخارجها. وأن الرجل يعيش في نفس المنزل المتواضع الذي بدأ به حياته عام 1958. ولم يُعرف عن الرجل أنه تهرّب من الضرائب أبداً، أو اشتغل في أعمال السمسرة والمضاربة في الأراضي. وكان الرجل رغم ثرائه الهائل من شركات إنتاجية يعمل بها أكثر من ثلاثين ألف عامل، يمشي على قدميه من منزله إلى مكتبه. إن ما فعله وارن بوفيت قام به أيضاً أغنى أغنياء العالم وهو بيل غيتس، الذي تبرع بمعظم ثروته، إلا قليلاً، لنفس أغراض الخير ومقاومة الأوبئة والأمراض في إفريقيا. وحينما سمع كل منهما عن مقصد الآخر، عرض بوفيت أن يضع ما تبرع به مع تبرع بيل غيتس، على أن يدير غيتس المؤسسة التي ستنفق هذه الأموال. وكما يعلم معظم القراء فإن بيل غيتس، الذي لم ينه دراسته الجامعية، قد صنع ثروته من خلال شركة البرمجيات، التي أصبحت تُعرف باسم مايكرو سوفت (Microsoft). وأصبح أغني أغنياء العالم وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره. فمع كل ما يوجه إلى الرأسمالية عموماً والرأسمالية الأمريكية خصوصاً من انتقادات، وخاصة إغراقها في المادية والنهم الاستهلاكي في الداخل والاحتكار والاستغلال في الخارج، إلا أن من شيّدوا هذه الرأسمالية في القرون الثلاثة الأخيرة، قد طوّروا منظومة من القيم والسلوكيات الحميدة، التي أفرزت أشخاصاً مثل بيل غيتس ووارن بوفيت، ومن قبلهما عمالقة مثل جون روكفلر وهنري فورد. وكان هذان الشخصان تحديداً مسؤولين عن ثورة إنتاج النفط وتكريره، وعن إنتاج السيارة الشعبية المعروفة بحرف تي (T) على التوالي. وكان الرجلان رأسماليان شرسان، سحق كل منهما منافسيه بلا رحمة أو شفقة. ولكن مع تربع كل منهما على عرش المجال الذي اختاره لنشاطه، بدآ يهدآن ويفكران في تسخير الجزء الأكبر من ثروة كل منهما في خدمة قضايا إنسانية خيرية وتنموية وتعليمية. أي أن الرأسمالية كما أراد لها من ابتكروها وروّجوا لها، أن تقوم على العمل الجاد، والإنجاز، والمنافسة الشرسة. ولكن في نهاية المطاف، فإن نفس هؤلاء الرأسماليين الشرسين ينخرطون في الأعمال «التطوعية»، ويتبرعون بالجزء الأكبر من ثرواتهم لأهداف النفع العام، وعادة من خلال مؤسسات مدنية تحمل أسماءهم... والرأسماليون العصاميون هؤلاء، هم الذين يُفضلون التبرع بجزء من أرباحهم السنوية للجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني عن دفعها كضرائب للحكومة. فهم يعتقدون أن الحكومة «شر لا بد منه»، فقط لحفظ النظام وتطبيق القانون وحماية الحدود. ولكن الحكومة غير كفؤ لإدارة أي نشاط خدمي أو إنتاجي. وتسمح القوانين في معظم البلدان الرأسمالية لمواطنيها باقتطاع جزء من دخولهم للتبرع بها لمنظمات وأنشطة غير حكومية. ومثل روكفيلر وفورد وكارنجي في القرن الماضي، وبيل غيتس ووارن بوفيت في هذا القرن، هناك مئات من الرأسماليين الأقل شهرة، ولكنهم يفعلون نفس الشيء. وبهذا المعني يجوز الحديث عن مآثر للرأسمالية، إلى جانب شرورها. فهل يوجد مثل هذا التوازن بين الشرور والمآثر في رأسماليتنا العربية والمصرية؟ ولدت الرأسمالية المصرية، في القرن الماضي التي يرمز لها طلعت حرب، وزملاؤه الذين أسسوا بنك مصر، ومجموعة الشركات الصناعية، التي انبثقت عنه. لقد كان هذا الرعيل الأول واعياً تماماً بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية لرأس المال. فهذا الجيل، مثلاً، هو الذي أسس الجامعة المصرية (1907) والتي أصبحت فيما بعد جامعة فؤاد الأول، ثم الآن جامعة القاهرة. كما أن نفس الجيل من الرأسماليين المصريين الأوائل هم الذين شيّدوا الصروح الطبية العملاقة، مثل مستشفى المواساة بالإسكندرية، ومستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة (جيزة) والمستشفى القبطي بشارع رمسيس. ونفس الجيل هو الذي أسس مسرح رمسيس وصناعة السينما المصرية واستوديوهات مصر والأهرام، ومعهد الموسيقى الشرقية، وغيرها مما يصعب حصره في هذا المقال. وكذلك ظهر عربياً جيل مشابه لجيل طلعت حرب في مصر، ونذكر منهم على سبيل المثال عبد الحميد شومان، مؤسس البنك العربي في فلسطين، والذي لايزال قائماً بفروعه في عدة بلاد عربية، رغم نكبة فلسطين (1948)، وقد استحدثت الأسرة بعد رحيل الرجل مؤسسة تحمل اسمه وتنشط في أعمال الفكر والثقافة والفنون والتعليم. وهناك في لبنان مؤسسات استحدثها رأسماليون عصاميون مثل عصام فارس ورفيق الحريري. وفي الكويت هناك مؤسسة البايطين وسعاد الصباح. أما الجيل الحالي من الرأسماليين المصريين، فرغم تضخم ثرواته مقارنة بجيل طلعت حرب، فلم نسمع عن مآثره بعد، ولكنا سمعنا وقرأنا الكثير عن فضائحه وجشعه ومخازيه. وربما كان الاستثناءان اللذان يعرفهما هذا الكاتب هما آل سلام، أصحاب مجموعة شركات أولمبيك، والذين بدؤوا «بنك الطعام» الذي يقدم وجبات لحوالي مليون جائع يومياً، وآل ساويرس أصحاب مجموعة «أوراسكوم»، التي تشمل شركات موبينيل والأسمنت والحديد والمقاولات، والذين أنشؤوا مؤسسة عملاقة للنفع العام تحمل اسم الأسرة. فتحية لرأسمالية المآثر، التي نرجو من أصحابها أن يُنقذوا تعساء الدويقة من نكبة ثالثة، ومن مخازي دولة فاشلة. آمين، يا رب العاملين.