فوجئ الأتراك يوم الجمعة الماضي، 6 يناير، بنبأ يفيد صدور أمر قضائي بإيقاف رئيس الأركان الأسبق الجنرال إلكر باشبوغ، انتظارا لمحاكمته. باستثناء الجنرال روشتو إردلهورن، رئيس أركان الجيش التركي، عشية انقلاب 1960 الشهير، الذي قادته مجموعة من صغار الضباط ضد حكومة مندريس والضباط الكبار المتحالفين مع رئيس الحكومة الإصلاحي - المحافظ، لم يسبق أن تعرض رئيس أركان عامل أو سابق للجيش التركي لمثل هذا الإجراء، بل ولا حتى تصور أحد في تركيا وقوعه. والمفارقة بين رئيس أركان نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ورئيس أركان مطلع القرن الحادي والعشرين لم تخف عن البعض. اعتقل إردلهورن من قبل مجموعة انقلابية من ضباط شبان راديكاليين، تصوروا أن مندريس وحلفاءه يمثلون تهديدا لجمهورية أتاتورك والقواعد التي أسست عليها. ولم يلبث أن قام الحكام العسكريون الجدد بتقديم كبار رجالات الدولة للمحاكمة التي انتهت بإعدام مندريس وآخرين والحكم بالسجن الطويل على رئيس الأركان المخلوع، ولكن الحكم على إردلهورن خفف بعد ذلك لأسباب صحية. والمدهش أن انقلاب 1960، على وجه الخصوص، كان السابقة التاريخية التي دفعت بالجيش التركي إلى قلب الساحة السياسية، وتعهده ثلاث محاولات أخرى للانقلاب أو الانقلاب المصغر، إضافة إلى مناسبات لا تحصى للتدخلات الخفية وغير المباشرة. هذه السلسلة من التدخلات المستمرة في شؤون الحكم والدولة هي ما ولد المناخ الذي أدى بعد أكثر من نصف قرن إلى إثارة الشك حول رئيس أركان آخر بارتكاب جرائم تستدعي الحبس على ذمة المحاكمة. ولم يكن غريبا أن يعتقد بعض الأتراك أن تركيا العدالة والتنمية، تركيا المحافظين الإصلاحيين، تثأر اليوم، بمحاكمة باشبوغ، من تركيا الانقلابيين الراديكاليين التي اعتقلت وحاكمت رئيس الأركان الحليف لتركيا المحافظين الإصلاحيين قبل خمسين عاما. بيد أن الأمر في حقيقته ليس ثأرا متأخرا. الجنرال باشبوغ متهم بارتكاب جريمة العمل على إطاحة الحكومة الشرعية، في قضية تشغل تركيا منذ سنوات قليلة، حوكم فيها وأدين عدد من الضباط والمدنيين على السواء. وتدور القضية حول مجموعة من العسكريين الذين نشطوا طوال عدة سنوات، بعد فوز حزب العدالة والتنمية الانتخابي الأول في نهاية 2002، لاستهداف الحكومة المنتخبة، سواء بمخططات لنشر الفوضى والعنف في البلاد أو بدعاية سوداء ضد العدالة والتنمية عبر الصحافة المكتوبة وعشرات المواقع الإلكترونية التي أسست لهذا الغرض. عدد من الضباط الذين وجهت إليهم الاتهامات ويقفون اليوم أمام العدالة أفاد بأنه لم يكن يفعل سوى تنفيذ الأوامر، وأن الجنرال باشبوغ هو من كان يصدر هذه الأوامر. المدافعون عن الجنرال يقولون شيئا آخر، وإن المواقع الإلكترونية التي يشار إليها كانت قد أسست في التسعينيات بصورة شرعية وبإقرار من حكومة بولنت إيجيفيت، بهدف مواجهة التيارات الانقسامية في البلاد، والمقصود بذلك بالطبع حزب العمال الكردستاني والمناصرون له، وإن هدف هذه المواقع قد تغير بعد 2002، ليصبح بث الدعاية ضد العدالة والتنمية وحكومته. ما قام به الجنرال باشبوغ عندما تولى مسؤولياته على رأس قيادة الجيش، يقول المدافعون، كان الأمر بإغلاق معظم هذه المواقع. قد يكون الجنرال مذنبا وقد لا يكون. وقد بات مصير باشبوغ الآن في يد القضاء. وإن كان هذا التعبير روتينيا، فلا يجب أن يرى كذلك في هذا السياق. قبل سنوات قليلة فقط، لم يكن أحد من الأتراك ليتعامل مع تقديم قائد سابق لأركان الجيش بمثل الطريقة العادية إلى حد كبير التي تعامل بها الرأي العام التركي مع قضية الجنرال باشبوغ. حتى في قيادة الجيش، ليس هناك من رد فعل غير عادي. كان باشبوغ نفسه قد خاض معركة شبه علنية مع أردوغان عندما بدأت حوادث إلقاء القبض على الضباط المتهمين بالتآمر على الحكومة المنتخبة. وقبل أقل من عام، استقال رئيس الأركان الأسبق، وعدد من كبار ضباط الجيش، للسبب نفسه. اليوم، تسير أوضاع البلاد في صورة معتادة، بالرغم من الجدل الإعلامي الواسع الذي أحاط بتوقيف الجنرال باشبوغ وتقديمه إلى المحاكمة. تركيا، باختصار، تغيرت، ليس فقط لأن حكومة مختلفة تتولى شؤون البلاد منذ زهاء عشرة أعوام، وأن هذه الحكومة أظهرت من البداية تصميما لا يلين على تغيير قواعد العلاقة بين المؤسسة العسكرية ونظام الحكم، ولكن أيضا لأن الأتراك باتوا يدركون أن مثل هذا التغيير أصبح ممكنا، وأنه تغيير ضروري لاستقرار البلاد وتقدمها. وفي هذا كله ثمة دلالات ذات علاقة وثيقة بما يحدث في عدد من البلاد العربية، فمعضلة موقع الجيش في الدولة الحديثة، وعلاقته بنظام وعملية الحكم، تطرح الآن في المشرق العربي الإسلامي كما لم تطرح من قبل. أطلقت حركة الثورة العربية تيار إصلاح بالغ القوة والاندفاع، وتقف مسألة الجيش باعتبارها واحدة من أبرز قضايا الإصلاح. ولكن ذلك لا يعني أن دور الجيش وموقعه هو ذات الدور والموقع في دول الثورة العربية. ولدت مؤسسة الجيش الحديث، الجيش المتفرغ، المحترف، المكرس لوظيفة الحرب، والعامل باستمرار على تطوير أدوات ووسائل الحرب التي يمتلكها، باعتبارها إحدى أدوات تعزيز الدولة القومية الحديثة وحراسة مقدراتها. وعندما طورت فكرة الخدمة العسكرية، كان المقصود بها ليس عسكرة المجتمع أو تحويله إلى مؤسسة عسكرية هائلة، بل وتطوير دور الجيش من أجل خدمة أهداف البناء القومي والولاء للدولة، إلى جانب الدور الذي يلعبه التعليم المركزي الحديث. أغلب الدول التي تبنت الخدمة العسكرية لم تكن بالضرورة مهددة من مخاطر خارجية. وبالرغم من أن معظم الجيوش العربية أسس بعد الاستقلال من السيطرة الأجنبية، فإن الدور الذي كان يفترض أن يلعبه الجيش لا يختلف عن ذلك الذي وجدت من أجله مؤسسة الجيش الحديث في السياق الأوربي. يحمي الجيش حدود الدولة، يدافع عن استقلالها واستقلال قرارها، ويدور حوله عدد من الأساطير الضرورية لبناء الأمة ووحدتها. بيد أن الجيش هو أكثر مؤسسات الدولة الحديثة فعالية وقدرة. في التعريف الفيبري الشهير، تعتبر الدولة المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر العنف، بمعنى المؤسسة التي تحتكر شرعية امتلاك أدوات العنف: كل عنف خارجها هو بالتعريف غير شرعي. وبالرغم من أن احتكار الدولة للعنف يتجلى في أكثر من دائرة، يتمتع الجيش بامتلاكه أمضى وأكثر أدوات العنف فتكا. ولكن هذه ليست السمة المميزة الوحيدة للجيش، فبالرغم من أن الجيوش يمكن، ويحدث بالفعل، أن تتعرض لانتشار الفوضى وانفراط العقد، تعتبر الجيوش ذراع الدولة الأقل عرضة لهذا الطارئ المميت. الجيوش هي في الغالب ذراع الدولة الأكثر انضباطا وتنظيما وقدرة على التعبير عن إرادته وإرادة الدولة. ولذا، فعندما تأخذ دوائر الدولة الأخرى في التحلل، بفعل عوامل التحلل أو التأزم السياسي والاقتصادي، أو تتعرض وحدة الطبقة الحاكمة ووحدة المجتمع ككل للانهيار، تتصاعد مشاعر التفوق والاستعلاء لدى الجيش، ويتحرك لتجاوز الخط الرفيع، الفاصل بين دوره في تعزيز وجود الدولة القومية الحديثة، ودور الوصي على هذه الدولة والأمل الوحيد في إنقاذها. وهنا، يتضخم دور الجيش السياسي، ويتحول بفعل انقلاب عسكري مباشر أو ترتيبات غير مباشرة إلى الحاكم الرسمي أو الفعلي للبلاد، دافعا بالإرادة الشعبية إلى الهامش. وهذا ما عرفته دول مشرقية مثل تركيا وباكستان، ودول عربية متعددة، خلال فترة تطول أو تقصر من تاريخها الحديث، من العراق وسورية ومصر إلى اليمن والجزائر وموريتانيا، بداية من الانقلاب العسكري العربي الأول في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي. الاعتقاد الواسع اليوم في تونس الثورة أن الجيش لا يمثل تهديدا لعملية الإصلاح والتحول الديمقراطي. ثمة أسباب عديدة خلف هذا الموقف البارز والمميز للجيش التونسي، بعضها يعود إلى تراث الجيش غير الانقلابي، وبعضها إلى حجمه الصغير نسبيا، وبعضها ربما إلى توجهات قيادة الجيش التي اختارت الوقوف إلى جانب الشعب في الثورة العربية الشعبية الظافرة الأولى. ولكن الأمر في مصر، كما أشرت من قبل في هذا الموقع أكثر من مرة، يختلف إلى حد كبير. والأرجح أن سؤال الجيش الذي يواجهه المصريون اليوم، بعد مرور عام على انطلاق الثورة المصرية، سيواجه اليمنيين أيضا خلال الشهور القليلة القادمة، بل إن الحالة اليمنية تبدو أكثر تعقيدا، نظرا إلى الانقسام الذي يعاني منه الجيش اليمني في موقفه من الثورة ومطالب الإصلاح والتغيير. في ليبيا، التي تطورت ثورتها إلى ما يقارب الحرب الأهلية، انقسمت القوات المسلحة بين معسكري الاقتتال، وتحول قطاع ملموس منها إلى أداة بالغة الوحشية والعنف في يد النظام السابق. وهناك أدلة متزايدة على أن الجيش السوري يمضي إلى طريق شبيه بالطريق الذي سلكه الجيش الليبي، بالرغم من أن خصوصيات سورية قد تجعل انقسام الجيش على نفسه عملية بطيئة ومديدة. الواضح، على أية حال، أنه ليس ثمة تغيير وإصلاح بدون أخذ الجيش في الاعتبار، تماما لأن الجيش المؤسسة الأكثر فعالية وقدرة بين مؤسسات الدولة الحديثة جميعا، حتى في الدول الصغيرة، غير ذات الوزن العسكري الملموس، مثل ليبيا أو تونس. عندما اختار الجيش التونسي الوقوف إلى جانب الإرادة الشعبية أمكن إنجاز أهداف الثورة بدون درجة كبيرة من العنف والدمار والدماء، وعندما تردد الجيش في اتخاذ موقف مشابه في ليبيا واليمن وسورية، تصاعدت مستويات العنف وكان ثمن التغيير باهظا. ولا تقل أهمية أخذ الجيش في الاعتبار في مرحلة ما بعد التغيير الأولي عن المرحلة السابقة على إنجاز التغيير، لذات الأسباب الخاصة جدا المتعلقة بقدرة هذه المؤسسة وفعاليتها. ما تحتاجه الدول العربية من أجل تأمين وجود الدولة الحرة، لا أن تستطيع مؤسسة القضاء إيقاف ومحاكمة رئيس أركان مثل باشبوغ، بل أن تنتفي أصلا أسباب توقيف ومحاكمة الجنرالات من قادة الجيوش. بشير موسى نافع