قال وزير الرياضة في الحكومة الجديدة إنه من حق المغاربة أن يعرفوا راتب مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم ذي الأصول البلجيكية، إريك غيريتس. هذا التصريح يدل على أن هذه البلاد غريبة بالفعل، والدليل الأول على ذلك أن لا أحد يعرف راتب مدرب منتخبها، والثاني أن الوزير الجديد يتحدث وكأنه سيكشف للمغاربة سرا خطيرا حول المريخ وهل توجد فيه حياة أم لا. جاء غيريتس إلى المغرب بعد قصة رومانسية غريبة الأطوار، فهو كان يعمل في السعودية، ووصلته رسائل الغرام من المغرب، ففكر وقدر، ثم فكر وقدر، فقرر أن يرد على «الغمْزة» المغربية بغمْزة مثلها، ثم يبقى في السعودية قرابة عام، وارتبط بالمنتخب المغربي في قصة عشق عن بعد، تماما كما كان حال قيس وليلى. من حق غيريتس أن يتدلل على عشاقه، فهذا سوك كل المعشوقين في تاريخ البشرية، فلم يسبق لعبلة أن طرقت باب عنترة وقالت له أحبك، ولا بثينة بعثت رسائل الغرام إلى جميل، ولا جولييت عطّرت رسائلها إلى روميو. من يعشق أولا يجب أن يتحمل التكاليف، لذلك تحمل المغرب تكاليف عشقه لإريك وأعطاه راتبا بقي في خانة أسرار الدولة. اليوم، ومن بين 30 مليون مغربي، لا أحد يملك الحقيقة سوى حفنة من الناس، ورئيس جامعة الكرة رفض الكشف عنه لأن بندا في العقد ينص على ترك الراتب محجوبا عن الخلق. عموما، فإن راتب غيريتْس صار اليوم مثل خصر شاكيرا، لا أحد يراه عن قرب لكن الجميع يعرف حجمه تقريبا. وهناك صحف بلجيكية قالت إن الراتب في حدود 250 أو 300 مليون سنتيم، وهو راتب عادي بالنسبة إلى مدرب كان يعمل في السعودية وضحى بكل امتيازاته هناك وقبِل بنا. ماذا نريد أكثر من هذا؟ المشكلة اليوم ليست في راتب غيريتس، فالمغاربة أصبحوا أكثر فطنة من تلك الأيام الغابرة. إنهم يريدون أن يضعوا قضية راتب غيريتس جانبا من أجل معرفة أشياء كثيرة أخرى أكثر أهمية. يريدون معرفة من هم كبار اللصوص الذين يجنون أنهارا من الأرباح ولا يؤدون الضرائب لخزينة الدولة. هذه هي المعضلة الحقيقية في هذه البلاد العجيبة، فملف الضرائب استعمل على مدى عقود للترهيب والترغيب. وهناك سياسيون يتصرفون أحيانا مثل فراعنة، وفجأة يسقطون أرضا ويتمرغون في التراب حين تدغدغهم الدولة بملفات ضرائبهم. الرسالة واضحة: إن لم تصمتوا فها هي ضرائبكم تنتظركم. المغاربة البسطاء يتزاحمون في طوابير طويلة من أجل أداء ضرائبهم، وهناك تجار يؤدون ضرائب أكثر من الأرباح، وإذا لم يؤدوها فإن القانون لن يرحمهم؛ لماذا، إذن، يطارد القانون مغاربة بسطاء ويترك كبار «الملايْرية» يعبثون بأرزاق وحقوق هذا الوطن؟ هذا سؤال لن يجد له أحد جوابا في المدى القريب. المغاربة، وعوض إلهائهم ببالون ملون اسمه «لغز راتب غيريتس»، يريدون معرفة أشياء أكثر أهمية بكثير، من بينها كشف رواتب رؤساء ومدراء كبريات المؤسسات العمومية والخاصة، وهؤلاء المدراء هم أهم بكثير من أعضاء حكومة بنكيران، وهم الذين يرسمون سياسة وتوجهات البلاد في ميادين كثيرة، ورواتبهم تفوق رواتب الوزراء أضعافا مضاعفة؛ اكشفوا لنا، إذن، أسماء هؤلاء ورواتبهم وامتيازاتهم وطبيعة أعمالهم وعلاقاتهم. سيكون رائعا أن يتوقف أعضاء حكومة بنكيران عن الحديث عن راتب غيريتْس، وعوض ذلك يتكفلون بإعداد لوائح طويلة عريضة عن كبار المتهربين من أداء الضرائب وكبار الموظفين الأشباح، ورصد الرواتب الخيالية لكبار الرؤساء والمدراء، وإعداد تقارير مفصلة عن الامتيازات الممنوحة للزوجات والأبناء والأصهار، وآلاف السيارات الفارهة التي يتبختر بها مسؤولون فاسدون ويدفع ثمنها الشعب، ومئات المقالع الممنوحة لأباطرة اقتصاد الريع، وطبيعة توزيع ثروات البحر بين أخطبوطات البر، والمغتنون من حشيش كتامة، الذين يمثلون علينا دور الناس المحترمين، والذين يضعون أرصدتهم في بنوك أوربا وأمريكا ويطلبون منا التضحية من أجل إنقاذ اقتصاد البلاد. أخبرونا كيف ظهر كل هؤلاء الأغنياء الجدد بيننا في رمشة عين، وكيف ظهر هذا الجيش من بقّ المراهقين الذين يلعبون بسيارات فارهة كلفة الواحدة منها مئات الملايين. أخبرونا من أفرغ صناديق الأبناك والتقاعد والمؤسسات العمومية، وأين هو القانون الذي لم يستطع مس شعرة منهم. اكشفوا لنا عن هؤلاء.. وعن آخرين كثيرين جدا... ونقسم لكم بالله جل جلاله أننا لن نطالبكم أبدا بالكشف عن راتب المدرب غيريتْس.