إدريس الملياني هل كل من يكتب شعراً يكتسب لقب الشاعر؟ ومن يحق له ومن لا ينبغي له أن يسمى شاعرا؟ غالباً، ما كانت بداية الكتابة شعراً لدى كتاب العالم، وربما لم تكن نثراً إلا رسائل الغرام. في تاريخ القراءة والكتابة، احتل الشعر، دائماً، كرسيَّ الصدارة بين كل أنواع الإبداع الإنساني، بصفة شرَفية ورسمية وشعبية، وكقيمة جمالية، لاسيما لمّا غزت نظريات الشعريات كل شيء. روي عن الكثير من السلاطين والملوك والقادة والرؤساء والزعماء والعلماء شعر، ولكن أحداً منهم لم يُسَمَّ شاعراً إلا الذين كانوا شعراء فعلاً، مثل الشاعر والناقد عبد الله بن المعتز، الذي لم ينعم بالسلطنة إلا ليلة واحدة.. أو الشاعر المعتمد بن عباد، من ملوك الطوائف، على سبيل الذكر، لا الحصر. وحتى الرسول، صلى الله عليه وسلم، اتُّهم ب»اقتراف» الشعر، فبرّأه عز وجل من تهمة الشعر والسحر، أيضاً، إلا سحر البيان. ولكن، قد يُصْدر الشاعر دواوين كثيرة دون أن يُعترَف به كشاعر حقيق، خليق بلقب «الشاعر». وفي التاريخ عبقريات شعرية لم ينتبه إليها أحد ولم تُفهَم ولم تقدر ولم تخلد في سفر الدهور إلا بعد مرور قرون وعصور، فمن هو الشاعر فقط، وهل من شروط ضرورية تميزه عن غيره من الكتاب؟.. للقاص عبد المجيد بنجلون ديوان «براعم»، كاد أن يتلفه ولم ينشره إلا وفاء لذلك الشاب الذي كانه، لكنه غير معدود ضمن جمهرة الشعراء. ولمحمد بيدي كذلك شعر جميل يمكن أن يضاهي ويباهي قصصه، إلا أنه لم يستطع أن يخلع عليه صفة الشاعر. ولأستاذ النقد العربي أمجد الطرابلسي، الشامي المغربي، ديوانان صدر أولهما في وطنه السوري، خلال حكومة الوحدة التي كان فيها وزيرا للتعليم، كاد أن يجعله أحد رواد الشعر الحديث، كما صدر له، قبيل وفاته في باريس، ديوان ثانٍ. ورغم ذلك، لا يرتبط اسمه إلا بالنقد الأدبي. وفي ديوان الشعر العربي، مغربا ومشرقا، كثير من الشعراء، الذين نشروا قصصا وروايات، ولكن القراء يُجنّسونهم شعراء، قبل أي شيء آخر، ولذلك قلما يقال الروائي محمد الأشعري، الذي لم يُدْع يوما إلى لقاء قصصي.. كما لا يستساغ، بتاتا، أن ينادى سعدي يوسف أو أمجد ناصر أو إبراهيم نصر الله باسم «الروائي»، مهما تعددت أعمالهم الروائية، وحتى لو تفوقت شعريتها على شعرية القصيدة. من هنا، يبدو الحبّ الأول هو الأخير الذي لا يُجبّ بأي هوى آخر. ربما كالحنين إلى المنزل الأول أو كمثل الأسماء والديانات والجنس«يات» المدونة في الحالة المدنية والمكتوبة على الجبين، لا يمكن التحول عنها إلى أخرى بسهولة، وإلا عُدّ ذلك كفرا بدين الولادة وخيانة لاسم الوالدين وازدواجية الجنس«ية» أو بمثابة لجوء أجناسيّ على غرار اللجوء السياسي.. وقد يكون تعداد الأجناس الأدبية، مثل تعداد الوظائف أو كتعدد الزوجات، لا يخلو من داء الضرائر، وهو بالتالي ظاهرة إبداعية غير صحية ولا تسلم من عواقب اجتماعية خطيرة، كالغيرة القاتلة والحسد والحقد بين الزوجات والإخوة الأعداء. وبالنظر من وجهة التحليل النفسي، يمكن أن يكون لهذا التحول، المشروع، من «جنس» إلى آخر، أكثرُ من سبب غير طبيعي، يحصرها بعض الظرفاء في الحب الماجن غير العفيف وادّعاء الفحولة، حسب المثل القائل: «كالمهدّر في العنة» والزواج المفتوح ونكاح ذات الست سنين ومفاخذة الرضيعة وزواج المتعة والمسيار وحتى العادة السرية والمثلية والتحول الجنسي.. وفي نظر آخرين، يبدو هذا النوع من الانتقال الإبداعي بين الأجناس الأدبية كالترحال بين الأحزاب السياسية أو كالتنافس التجاري على احتلال منابر النقد والإشهار واحتكار الجوائز والسوق والمهرجانات. وقد يغدو موضة عابرة، بدليل أن روايات الشعراء ومجاميعَهم القصصية أقل كثيرا من أعمالهم الشعرية، ولو كانت أكثرَ قليلا لما عُدّوا شعراء. ليس القصد حرمان الشعراء وعموم الكتاب من حرية الإقامة الدائمة أو المؤقتة في أي عقار شعري أو سردي ومن حق الهجرة خارج الوطن والسكن في فنادق الحداثة، لكن الوفاء ضروري لأي انتماء، ولا بد من الاكتفاء الذاتي والإخلاص والصدق في معاشرة القصيدة أو القصة أو الرواية أو المسرحية أو اللوحة والحرص على إسعادها والعناية بأبنائها ورعاية بنات أفكارها وليس الجمع بينها وبين ضرائرها فوق سرير أو حصير وتحت سقف أو غطاء مشترك والطواف عليهن، جميعا، في غسل أو ليل واحد.. الشاعر الحقيق الخليق بلقب الشاعر هو، إذن، الشاعر فقط، بحداثة الشعر وحرية قصيدة النثر وديمقراطية القصيد«ة» وكبرياء التفعيلة الجميلة وعفة القافية، الراقصة، وشرف الرويّ، الأبيّ، وعلمانية الكتابة، ذات المرجعية الكونية والهوية الوطنية. ولكنْ، دون أدنى مفاضلة أو منازلة بين الأجناس الإنسانية، حين الاقتران بحبيب منها، هو الحب الأخير والأول، باستمرار: الحياة!..