خلال جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب الجديد، بداية الأسبوع الماضي، غادر أعضاء الفريق الاتحادي القاعة احتجاجا على خرق قانوني تمثل في وجود حالة تناف بين ترشيح الاستقلالي، كريم غلاب، لرئاسة المجلس وصفته كوزير للتجهيز والنقل في حكومة عباس الفاسي المنتهية ولايتها، وفقا للفصل 14 من القانون الداخلي للمجلس، الذي ينص على التنافي بين العضوية في المجلس والعضوية في الحكومة. حرص الاتحاديون على أن يسجلوا أولى إشاراتهم السياسية -بعد اختيار التخندق في معسكر المعارضة- بين حكومتين، حكومة الفاسي التي كانوا يشاركون فيها بثلاث حقائب، وحكومة عبد الإله بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية الجديدة. لكن تلك الإشارة السياسية لم تكن موجهة فقط إلى بنكيران، رئيس الحكومة المعين، بل أيضا إلى حزب شاركوا معه في تدبير الشأن العام في حكومة تصريف الأعمال، وحليف لهم في الكتلة الديمقراطية حتى عشية إعلان حزب الاستقلال المشاركة في الحكومة الجديدة، وهكذا يكون الاتحاد الاشتراكي قد أطلق أول سهم له من موقع المعارضة في وجه حلفائه السابقين. بعد حوالي عشرين عاما، قضى ستة منها في المعارضة والباقي داخل الحكومات المتعاقبة منذ حكومة التناوب التوافقي عام 1998، يجد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نفسه يمارس دور المعارضة بعيدا عن إطار الكتلة الديمقراطية التي صاحبها طوال تلك الفترة، داعيا إلى الإصلاح ثم مشاركا في الحكومات المتتالية. وبقدر ما سيؤدي ذلك إلى جعل مهمة المعارضة صعبة أمامه خلال ولاية الحكومة الجديدة، بقدر ما سيحاول بناء تحالف جديد من شأنه أن يضع حدا نهائيا للكتلة الديمقراطية، التي لم تعد في الواقع تؤدي وظيفة عملية منذ عدة سنوات. لقد أدت انتخابات 25 نونبر الماضي إلى فرز نسبي في المشهد السياسي، فالتيار المحافظ الذي يتمثل أساسا في حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال حاز على نتائج ملحوظة، بينما تلقى اليسار بجميع تلويناته ضربة قاصمة جعلته الخاسر الأكبر في تلك الانتخابات، التي نظمت في إطار دستور جديد بعد الحراك الشعبي، وفي هذه الظرفية السياسية الجديدة التي دخلتها المملكة كان من المفروض نظريا أن يسجل اليسار حضوره وأن يستثمر ذلك الحراك كمنصة إطلاق جديدة، لكن العكس هو الذي حصل، ليظهر أن شعارات الغضب الجماهيري في الشارع لم تكن ذات هوى يساري. وباستثناء وجود حزب التقدم والاشتراكية داخل حكومة بنكيران، تبدو هذه الأخيرة ككتلة منسجمة من أحزاب تنتمي إلى المعسكر المحافظ بإضافة حزب الحركة الشعبية كان يعول عليها لإحداث فرز سياسي في الخريطة الحزبية. لقد توعد الكاتب العام للاتحاد الاشتراكي، عبد الواحد الراضي، حكومة عبد الإله بنكيران بمعارضة قوية تتجاوز قبة البرلمان، لكن هذه المهمة تظل محكومة بواحد من سقفين أو بهما معا في وقت واحد: السقف الأول هو إعادة بناء بيت اليسار وتجميع شتاته الذي تفرق على صخرة حكومة التناوب قبل 14 سنة، والسقف الثاني هو الانخراط ضمن الفعاليات الاجتماعية لحركة 20 فبراير لتعزيز مطالبها. غير أن كلا المهمتين تبدوان صعبتين في المدى القريب. فبخصوص توحيد اليسار أو عودة الأحزاب اليسارية الصغيرة إلى الصف الاتحادي كما يقول محمد اليازغي هناك عدة عقبات، من بينها أن الاتحاد الاشتراكي سيكون مطالبا بإجراء نقد ذاتي صارم لتجربته داخل الحكومات المتعاقبة، وهو مطلب مرفوع داخل الحزب وتتبناه باقي أطراف اليسار، غير أن صقور الحزب، خصوصا الذين شاركوا في الحكومات السابقة وكانوا من عرابيها، سيقفون سدا منيعا أمام تحقيق هذه المهمة، لأن من شأنها أن تعيد خلط الأوراق مجددا بل الإطاحة ببعض الرؤوس في حال الذهاب إلى المؤتمر. ثاني هذه العقبات أن أطراف اليسار الأخرى لن تقبل بلعب الاتحاد الاشتراكي دور الأب أو الأخ الأكبر، بسبب تراكم التجارب السابقة، كما أنه من الصعوبة أن تقبل الأحزاب الأخرى التي خرجت في وقت سابق من مظلة الحزب العودة إليه من جديد، لسببين، الأول يرتبط بنسج تلك الأحزاب الصغيرة لشبكة من المصالح وطبقة من النافذين الذين لن يثير شهيتهم الرجوع إلى الحزب، والثاني يرتبط بتجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي انضم إلى الاتحاد الاشتراكي قبل سنوات ولم ينل أعضاؤه السابقون حظا داخل الحزب العتيد بسبب مراكز القوة الصلبة فيه التي تجعل من العسير إحداث أي ثقب فيها من أي وافد جديد. أما سيناريو ضبط إيقاع معارضة الحزب مع حركة 20 فبراير فإن العقبات تتمثل في أن هذه الحركة ظهرت أولا احتجاجا على حكومة عباس الفاسي واختياراتها، والتي كان الاتحاد الاشتراكي من صناعها، وإن كانت الحركة ستجد في انضمام الحزب إليها فرصة لتقوية صفوفها وتعويض الفراغ الذي تركه انسحاب جماعة العدل والإحسان منها، خاصة وأن ذلك ربما قد يؤدي إلى «تدقيق» مطالب الحركة. بيد أن ذلك يتوقف على إمكانية فتح حوار بين الحركة وبين حكومة عبد الإله بنكيران، في ضوء التصريحات التي أدلى بها هذا الأخير وأبدى فيها استعداده لفتح حوار معها، وفي حال خلوص هذا الحوار إلى نتائج معينة تمتص بها الحكومة فوران الحركة فإن الاتحاد الاشتراكي ومعه أحزاب اليسار سيفقد هذه الورقة التي يمكن أن يوظفها لإعادة موقعة نفسه في الشارع. الوضع بالنسبة لما تبقى مما يسمى «مجموعة الثمانية» سيكون أكثر صعوبة. فهذا النادي الذي أسس لدواع انتخابية بالدرجة الأولى يتكون من عدة توجهات، فيها اليساري والليبرالي والإسلامي، وهو ما سيكون عائقا أمام انسجامه في أداء دور المعارضة. كما أن هذا النادي يضم أحزابا لديها تمثيلية داخل البرلمان وأخرى غير ممثلة فيه، وسيكون الأول مدعوا إلى تنسيق تحركاته داخل البرلمان مع فرقاء من خارج تحالف الثمانية لمواجهة الحكومة، بينما يبقى في الخارج طرفان، الأحزاب اليسارية الصغرى التي سيتوقف مستقبلها على سيناريو تجميع اليسار، ومن ثمة مغادرة التحالف، أما الطرف الثاني، ممثلا في حزب النهضة والفضيلة الصغير، فسيسعى إلى التقارب مع الأحزاب الإسلامية الأخرى، وهي البديل الحضاري والحركة من أجل الأمة في حال حل الحكومة الجديدة لمشكلتهما ورفع المنع عنهما، وفي الحالة المعاكسة سيجد نفسه يسبح وحده بعيدا. خلاصة القول إنه إذا كانت طبيعة المعارضة البرلمانية واضحة تقريبا منذ الآن، فإن هناك سيناريوهات متعددة للمعارضة من خارج المؤسسة البرلمانية، كما أن هناك سيناريو آخر يظل واردا، وهو أن يبقى التشتت الحزبي وهجانة التحالفات قائمة.