أصبحت عملية إعادة تمثيل الجريمة، التي تحولت إلى مشهد مصور مكمل للبحث، الذي تباشره الضابطة القضائية، أشبه بمسرحيات مفتوحة في وجه العموم، مجانا، تتوفر فيها مقومات الفرجة بوجود سيناريو وممثلين وديكور وجمهور ومسرح «جريمة»، ومخرج يحرص على احترام النص وحبكة درامية قادرة على استقطاب المتفرجين. لكن الاختلاف الكبير يكمن في كون الممثل، أي المشتبه فيه، يؤدي دوره بالمجان دون تعويض مالي أو تصفيق من الجمهور، فالتعويض الوحيد الذي يناله هو عبارة عن عقوبة حبسية قد تكبر أو تصغر، حسب طبيعة ونوعية الجرم. في هذا الروبورطاج، سنحاول الإحاطة بتقنيات تمثيل من نوع آخر، ونرصد بعض المفارقات الغريبة المرتبطة بفرجة لا يراد بها الترفيه، بل لحكمة تعيد للمخزن هيبته وحضوره. بين العالم الحضري والقروي، تختلف الجرائم ويتنوع المجرمون، لكن سيناريو تمثيل هذه الجرائم يتشابه في الوسطين، مع اختلاف في الديكور من المدينة إلى البادية، لكن وعلى الرغم من مسحة الألم، التي تخيم على هذه اللحظات المستقطعة من حياة مجرمين أو مشتبه فيهم، إلا أن مسرحيات الإعادة البطيئة والعلنية لجرائم سريعة وسرية لا تخلو من غرائب وطرائف تستحق أن تروى، ولو على سبيل المؤانسة. إن إعادة تمثيل الجريمة، في نظر القانون، هي «وسيلة إثبات تزكي الاعترافات المتضمنة بمحاضر الضابطة القضائية»، ولأن محاضر الضابطة في المرحلة الجنائية هي وثيقة كباقي وثائق الملف وتخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، فإن تمثيل مشهد الجريمة يعد قرينة تحول الاعتراف من مجرد كلام مدون إلى فعل ممارس مرئي، بمعنى أن القضايا الجنائية تختلف في معالجتها عن الجنح، التي تعتبر فيها المحاضر حاسمة في الإثبات. ويرى بعض الحقوقيين أن تمثيل الجريمة فعل يتنافى وشروط المحاكمة العادلة، ويؤكدون أن إلزام المشتبه فيه وإرغامه على تمثيل الجريمة المتابع فيها، بكل تفاصيلها وأمام الجمهور والإعلام بمختلف مشاربه، يحوله من متهم بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي، إلى مجرم بحكم الرأي العام وجمهور المتتبعين، قبل أن يحاكم قضائيا، أي أن المتهم يحاكم إعلاميا قبل محاكمته في فضاء المحكمة. لا تكمن الخطورة في إعادة تمثيل كيفية ارتكاب الجريمة، بل في بعض الممارسات والوقائع المرتبطة بها، خاصة حين يتعلق الأمر بإعادة تمثيل جرائم الشرف أو القتل العمد للأطفال. ويرى بعض فقهاء القانون أن تمثيل الجرائم يتعارض وروح المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية، التي تنص على مبدأ السرية والتكتم في مختلف مراحل البحث، بينما يتم الإجهاز على السرية حين يتم «إشهار» الفعل الإجرامي، وهو ما دفع البعض إلى المناداة بسرية تمثيل الفعل المرتكب، بل هناك من ذهب إلى أبعد من إلغاء تصوير الجرائم، وطالب بإلغاء أقفاص الاتهام، لأنها «تمس بقرينة البراءة التي هي الأصل». وعلى الرغم من الجدل القائم حول قانونية «المسرحية»، إلا أن المسؤولين الأمنيين، الذين التقتهم «المساء»، أجمعوا على أن الغاية من إعادة تمثيل الجرائم «ليس التشهير بالمجرم، بل الرغبة في إنهاء حالة الهلع الذي يخيم على الساكنة بعد شيوع خبر الجريمة، وإعادة الثقة للجهاز الأمني، ثم جعل المواطن يقف، من خلال تتبعه لمشهد إعادة الجريمة، على عدم جدوى السلوك الإجرامي وعلى يقظة المخزن.
جنيريك أقصر المسرحيات يتكون فريق عمل المسرحية من المشتبه فيه كممثل رئيسي، ومن مجني عليه يكون في الغالب «معارا» لتقمص دور الضحية، و«مخرج» ينتمي عادة إلى الضابطة القضائية، التي باشرت البحث، وممثل عن النيابة العامة كالوكيل العام أو من ينوب عنه، كما يمكن لقاضي التحقيق أن يحضرها، فضلا عن مكونات أخرى للمشهد، كالسلطات المحلية، قائد أو من ينوب عنه ومقدم أو شيخ، إضافة إلى الجمهور، الذي يتفاعل مع هذه المشاهد، التي تجسد جرائم لطالما شغلت الرأي العام، مع حضور لافت لوسائل الإعلام، بمختلف مشاربها، حسب طبيعة ونوعية الجرم. وبما أن نسبة الاستقطاب الجماهيري تكون عالية في مثل هذه الوقائع، فإن الضابطة القضائية غالبا ما تستنفر تعزيزات أمنية لضمان «نجاح» التمثيلية والحيلولة دون وقوع أحداث جانبية من شأنها أن تحول دون استكمال مشاهد المسرحية، كمحاولة الاعتداء على المشتبه فيه من طرف أفراد عائلة الهالك، أو محاولة فرار أو انتحار الممثل، مما يجعل الحيطة والحذر عنوانا للعملية، التي تحاط بتدابير وقائية، كي لا تتحول من مشهد لإعادة تمثيل جريمة إلى فاجعة جديدة. التنكيل قبل التمثيل في كتب التاريخ المغربي حكايات أقرب إلى التنكيل منها إلى التمثيل، إذ غالبا ما سعى المخزن إلى التشهير بالمجرمين أو من يعتقد أنهم معادون للنظام المخزني، من خلال اعتقالهم داخل أقفاص والقيام بجولة داخل أسوار المدينة، المغزى منها تحقير الجاني والتأكيد على أن سلطة المخزن لا يعلى عليها. وخير مثال للتشهير العقابي، حالة الجيلالي الزرهوني، الشهير بلقب بوحمارة، الذي تحول من متمرد على المخزن، مستغلا الفتنة التي كانت تعرفها البلاد، وحالة التسيب العارم، الذي مس جميع مناحي الحياة العامة، إلى زعيم شرع في سن الظهائر السلطانية وكون جيشا ووزارات وأبرم معاهدات، لكن تألقه لم يستمر إلا بضع سنوات، ليجد نفسه في قفص يجوب أزقة فاس وسط جحافل من الأهالي، الذين استمتعوا بإعادة التنكيل بمتهم انتهى به المطاف تحت الرجم بالحجارة والطماطم. يرى بعض المؤرخين، خاصة جاك أندرياني، أن التنكيل ببوحمارة هو أسلوب للردع أكثر مما هو زجر، بل إن بعض الروايات التاريخية ذهبت إلى أن المخزن «قدم الزرهوني إلى أسد جائع لافتراسه، فتراجع الأسد لسبب لا يعرفه إلا هو»، غير أن السيوف والخناجر لم تمهل بوحمارة. وبعد أزيد من قرن من الزمن، عاد «التطواف» إلى قاموس القصاص الفرجوي أمام الجماهير، لكن الأمر اقتصر على بعض المدن المغربية، حيث اختارت دورية للأمن، في العاصمة الرباط، التشهير بمجرم قاصر ظل موضوع مذكرات بحث عديدة، بعد أن ارتفعت فاتورة ضحاياه، ونقلت الصحافة الوطنية مشهد الجاني وهو شبه عار، حيث طاف به أفراد من الأمن أزقة العاصمة، في محاولة لتطمين الساكنة ووضع حد لكوابيسهم. ويبدو أن التشهير بالأظناء كان يتم بترخيص من السلطات الأمنية والقضائية. الطفولة المغتصبة فرجويا قبل ثلاث سنوات، شهد حي «للامريم» الشعبي بتراب عمالة سيدي عثمان مولاي رشيد فصول عملية إعادة تمثيل جريمة اغتصاب وقتل طفل. الأمر يبدو عاديا، لكن الشاذ هو أن الطفل الذي مثل دور الضحية في دراما القتل والاغتصاب، قد تم اختياره من «عينة عشوائية» أمام بوابة مدرسة، بعد أن توفرت فيه مواصفات الهالك الصغير، دون الحاجة إلى كاستينغ. وحسب رواية والد الطفل، فإن رجل أمن اقترح على ابنه تمثيل دور الضحية في مشهد إعادة تمثيل جريمة بالحي المذكور، ودس في جيبه قطعة نقدية من فئة خمسة دراهم كتعويض مالي عن دور يقف فيه الطفل في مواجهة مجرم حقيقي، دون موافقة الأسرة التي تم إشعارها من طرف أحد زملاء ابنها في الدراسة. وعلى الفور، انتقلت الأم مهرولة صوب مسرح الجريمة، لتقتحم المشهد في عز الانصهار في الأدوار وانتشلت ابنها من الفضاء، الذي كان مختنقا بمتفرجين من مختلف الشرائح والأعمار، وهم يسهرون على أمن المكان، أملا في إنهاء ما تبقى من وقائع اغتصاب وقتل أمام عدسات المصورين وعيون المقدمين والمخبرين. لم تقف أسرة الطفل «الممثل» مكتوفة الأيدي، فقد قرر الأب رفع دعوى قضائية ضد الشرطي، الذي استدرج ابنه وأدخله متاهة الجرم، مع ما ترتب عن الواقعة من خدوش نفسية لم يتخلص منها الطفل إلا بعد جهد جهيد، بعد أن ظل مشهد انبطاحه أرضا في انتظار نهاية تمثيل الواقعة راسخا في الأذهان.
دمعة وابتسامة أثناء عملية إعادة تمثيل جريمة قتل شخص مسن مشرد، بعد اغتصابه في مدينة آسفي بإحدى المباني الحكومية المهجورة، من طرف زميل له في مهنة التسكع، تبين أن الانتقال من الاستنطاق المكتبي للجاني إلى التمثيل الميداني قد تم بسرعة فائقة، وتحديدا بعد يوم واحد من اعتقال المتسكع، الذي اعترف دون عناء. قررت الفرقة الجنائية للشرطة القضائية بعاصمة عبدة التعجيل بالتمثيل، الذي تمت وقائعه وسط حشود رمت الجاني البالغ من العمر ثلاثين سنة باللعنات وزخات البصاق، بينما حرص المعني بالأمر على استفزاز الحاضرين باستعارة ابتسامة بلهاء زادت من سخطهم ورفعت درجة الاستنفار في صفوف رجال الأمن، الذين كانوا يسهرون على إخراج المشهد الفظيع، دون أن يصاب «الممثل» بال«طراك» من جراء انتفاضة المتفرجين. وإذا كان بطل واقعة آسفي سعيدا بفعلته، فإن تمثيل جريمة قتل طبيبة أسنان في مدينة طنجة، من طرف شاب كان يعمل بستانيا بمنزل الضحية المتزوجة من مواطن تونسي، قد شهد، على النقيض من سابقه، فيضا من الدموع وحالة صمت كئيب، بعد أن ظل الجاني يبكي الهالكة ويندب حظه العاثر تعبيرا عن الندم الذي لم يعد ينفع أحدا. ومن المشاهد التي عرفتها عملية تمثيل الجريمة، والتي حضرها كبار المسؤولين الأمنيين والقضائيين بالمدينة، إصرار زوج الهالكة على منع الصحافيين من ولوج بيته لمتابعة أطوار التمثيلية، بسبب الاتهامات التي ذهبت إليها بعض المنابر الجهوية في نقلها لخبر الفاجعة، خاصة تلك التي ربطت الجريمة بدواعي أخلاقية، دون أن تكلف نفسها عناء الاتصال بزوج الهالكة، ومنها من ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر الزوج مشتبها فيه. انتقام على المباشر في الوسط القروي، وتحديدا بمنطقة بني هلال في العمق الدكالي، شهد أحد الدواوير، التي تعاني من شبه عزلة، جريمة قتل اختلط فيها العمد مع سبق الإصرار والترصد. فقبل عقد من الزمن، كان رجل يعيش مع والدته في بيت الأسرة، وفي ساعة متأخرة من الليل، سمع صوتا غير مألوف في حظيرة الأبقار، حاول التحرك صوب الباب الرئيسي لمعرفة مصدر التشويش، قبل أن يكتشف وجود شخص وسط الأبقار، ودون سابق تفكير، وجه الرجل ضربة قوية بحجر ضخم إلى رأس الهالكة، التي لم تكن سوى والدته، وحين تبين له أنه تسبب في مقتل أمه خطأ، اهتدى إلى وسيلة لإبعاد التهمة عنه، فحمل جثتها ليلا إلى بئر مهجور غير بعيد عن الدوار. يروي أحد الدركيين بقية الحكاية قائلا: «في صباح اليوم الموالي، قام مقدم الدوار بالتبليغ عن الجاني، وأكد في إفادته أنه شاهد المتهم وهو يحمل على كتفه كيسا قبل أن يقوم برميه في قعر الجب ويعود من حيث أتى، وعلى الفور انتقلنا إلى عين المكان، بمساعدة رجال من الوقاية المدنية بسيدي بنور، وتبين أن الكيس يحمل جثة مصابة برضوض على مستوى الرأس، ناتجة عن ضربة قوية بحجر وأيضا عن السقوط في البئر». تم اعتقال الجاني وتمت متابعته بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، لكن المفاجأة حصلت أثناء عملية إعادة تمثيل الجريمة بالقرب من البئر، إذ بادر الجاني إلى دفع المقدم، الذي بلغ عنه، في الجب العميق، ولولا الألطاف الربانية لحصلت جريمة قتل أفظع ولابتلع البئر ضحيتين في ظرف ثلاثة أيام. حالات أخرى تحرص الضابطة القضائية على تعزيز الحراسة الأمنية، قبل وأثناء وبعد إعادة عملية تمثيل الجرائم، لكنها تصطدم بمواقف غريبة، كحالة الشرطي الذي أغمي عليه في درب الكبير أثناء مباشرة تمثيل جريمة أقرب إلى الواقع، والشرطي الذي دسه رئيسه وسط ثلاثة أشخاص، من بينهم شخص مشتبه فيه، عرضوا على أنظار شاهدة في مخفر للشرطة بمنطقة الغرب، قبل أن يفاجأ الحاضرون بالسيدة وهي تتوجه صوب الشرطي المتنكر في زي بسيط، وتمسكه من عنقه وهي تصيح «ها هو الكافر بالله». ويروي أحد ضباط الشرطة القضائية بولاية أمن الدارالبيضاء حكاية شخص تتم الاستعانة به في عمليات إعادة تمثيل الجرائم بشكل تطوعي، حيث تبين أن «الممثل» أصبح ينتحل صفة رجل أمن، وكلما حضرت دورية أمن إلى بيته لأخذه على وجه السرعة إلى مسرح الجريمة، اقتنع زملاؤه في الحي بانتمائه إلى سلك الأمن السري، وهي الصفة التي ظل يروجها، قبل أن يكتشف الجميع أن الممثل يقوم بانتحال صفة. تمثيل الجريمة في التلفزيون تتنافس القناة الثانية وقناة «ميدي 1 تي في» على تصوير الجرائم وتسويقها تلفزيونيا، من خلال برنامجين حققا نسب مشاهدة لا بأس بها، مما يؤكد جاذبية الجريمة وتفاصيلها لدى المتلقي. وإذا كانت القناة الثانية سباقة إلى رصد أفظع الجرائم التي شهدتها جلسات المحاكم، من خلال برنامج «أخطر المجرمين»، فإن قناة طنجة اختارت زاوية معالجة أخرى للإجرام، من خلال برنامجها الجديد «مسرح الجريمة»، الذي يلتقي مع سابقه في كثير من المواضيع، مما اعتبر سابقة في تاريخ الإعلام المرئي المغربي، الذي ظل بعيدا عن عالم الدم، إلا من خلال مواد إخبارية تختزل حوادث سير مميتة.
ضحايا يتفرجون على مصيرهم انتهت هواجس فتيات مدينة سطات بوضع اليد على شاب يبلغ من العمر 34 سنة، تحول من دونجوان عاصمة الشاوية إلى سفاح يجد متعة كبيرة في الإجهاز على الفتيات بعد اغتصابهن. كانت التهمة جاهزة، «جناية هتك العرض بالعنف، والمصحوب بالسرقة الموصوفة والسكر العلني، والتعذيب». وأمام تنوع التهم، كان لابد للضابطة القضائية لسطات، بعد انتزاعها لاعترافات الجاني، أن تلجأ إلى تمثيل المشاهد التي يرويها المتهم في حضرة قاضي التحقيق، لاسيما أن عدد ضحاياه قد بلغ، في ظرف عام واحد، ثلاث فتيات أو أكثر، لأن عددا منهن رفضن تقديم شكاية في الموضوع، صونا لما تبقى لهن من شرف. بعد ثمانية أشهر من التحقيق، طوقت الأدلة عنق الجاني، الذي اعترف بالجرم المنسوب إليه، وقبل إحالته على الوكيل العام للملك بسطات، أعاد المتهم تمثيل جرائمه وسط حشد جماهيري، هو الأكبر في تاريخ المدينة. لكن أغرب ما حصل في هذه العملية، هو تعرف الجاني على فتاة اخترقت زحمة الناس وبصقت على وجهه، بعد أن أمطرته بسيل من الشتائم، ليتبين أنها واحدة ممن كتب لهن عمر جديد بعد الإفلات من قبضته، وحين أنهى الممثل مشهد القتل والاغتصاب، توعد الفتاة بإشارة منه، قبل أن يسحبه رجل أمن من الخلف وينهي تحرشاته وهو على مسرح الجريمة.