تحل بعد أيام قليلة ذكرى مرور مائة سنة على إصدار مشروع الدستور الذي نشر في جريدة «لسان المغرب» على حلقات أربع، وذلك أيام 11 و18 و25 أكتوبر و1 نونبر من عام 1908. ويتعلق الأمر بنص أعدته نخبة من العلماء الذين حركهم هاجس الإصلاح والتحديث المؤسسي والحرص على وضع نموذج جديد لممارسة السلطة يرسم مداها وحدودها وتبعاتها، والاقتناع بضرورة الانفتاح على اجتهادات الآخرين وتقبلها. دستور لسان المغرب لم يكن المشروع الدستوري الوحيد الذي أُنجز خلال تلك المرحلة التاريخية، إلا أنه ربما كان الأكثر ذيوعاً، وإن لم يعرف محرروه بأسمائهم، وجاءت مبادرتهم في ظل الأخطار المحدقة باستقلال المغرب ووحدته، وفي عهد سلطان لم يمض إلا زمن قصير على توليه العرش عبر بيعة مشروطة رتبت عليه التزامات خطيرة (المولى عبد الحفيظ). وكنص كُتب قبل مائة عام، فقد احتوى على بعض المقتضيات التي تمتح من معين التقليد والأعراف السلطانية القديمة، كتنصيصه على واجب طاعة «الإمام الشريف والاحترام لذاته لأنه وارث البركة الكريمة» (المادة7)، وعلى أن مداولات مجلس الأمة مغلقة وغير مفتوحة (المادة43)، وعلى أن أعضاء مجلس الشرفاء ليس لهم راتب، لكن السلطان يمكن أن يمنحهم هدايا (م74)... الخ. لكن مشروع دستور لسان المغرب حمل أيضاً نفحات حداثية، لم يكتب لبعضها على امتداد قرن من الزمن، أن تستقر في بنيتنا الدستورية الحالية، وما أحوجنا اليوم إلى الاقتباس منها واستلهامها في إصلاح دستوري مقبل لمغرب بداية القرن الواحد والعشرين. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة. فدستور 1908 يسمح لأعضاء منتدى الشورى بممارسة حق النقد بكل حرية، حتى ولو طال ذلك الوزير الأكبر (الوزير الأول) أو السلطان نفسه (م39)، أي أن هذا الأخير ليس متعالياً على النقد وعلى المجادلة في صوابية ما يصدر عنه من أعمال وقرارات، بينما نفتقد في المغرب حالياً نصا يجيز صراحة نقد الملك. ودستور 1908 ينص في (م6) أن السلطان «يلقب بإمام المسلمين وحامي حوزة الدين»، بينما في الفصل (19) من دستورنا الحالي لا يتعلق الأمر بكوننا أمام مجرد «لقب»، بل يؤكد الفصل أن «الملك أمير المؤمنين»، وهذه صيغة أقوى في تشخيص الوظيفة الدينية لرئيس الدولة، والتي يمكن معها وباسمها أن يتم الإخلال بالحقوق والحريات وقواعد سير المؤسسات والسلط المنصوص عليها في الدستور. ودستور 1908 يقضي بتعيين الوزير الأول من طرف السلطان (م57)، إلا أن الوزير المعين يختار الوزراء ويعرض أسماءهم على منتدى الشورى مباشرة، فإن وافق المنتدى، أحيلت الأسماء على السلطان للمصادقة على تعيينها (م58) حتى وإن لم يحط علما بتلك الأسماء قبل مصادقة منتدى الشورى، بينما دستورنا الحالي يمنح الملك حق تعيين الوزير الأول وتعيين الوزراء باقتراح من الوزير الأول أولاً، ثم يفرض بعد ذلك فقط، أن تعرض الحكومة برنامجها على مجلس النواب من أجل حيازة الثقة (م60). ودستور 1908 يخول صلاحية تعيين العمال لهيئة الوزارة (الحكومة) مع الاحتفاظ لمنتدى الشورى (البرلمان) بحق التحفظ على أي من تلك التعيينات (م63)، أما القضاة وأهل الفتوى والعدول فيعينهم قاضي القضاة بموافقة مجلس الشرفاء (م66)، بينما الدستور الحالي يكفل للملك حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية ما لم يفوض ذلك لغيره (ف30). ودستور 1908 يسمح بافتتاح منتدى الشورى (البرلمان) بحضور السلطان أو بحضور الوزير الأول وحده، على أن تُقرأ رسالة السلطان التي تعلن الافتتاح (م37)، وهذا الأخير لا يكون بالضرورة يوم الجمعة، بل في يوم 21 من شهر شوال (م36)، بينما الدستور الحالي يمنح الملك وحده حق ترؤس جلسة افتتاح البرلمان سنوياً، ويكون ذلك وجوبا يوم الجمعة (ف40). ودستور 1908 يتبنى صياغة لمفهوم الحرية تجعله واسع الامتداد، فيؤكد أن لكل مغربي حق التمتع بحريته الشخصية بشرط ألا يضر غيره ولا حرية غيره (م13)، وأن الحرية الشخصية تعني أن «يعمل كل واحد ما يشاء ويتكلم ما يشاء ويكتب ما يشاء مع مراعاة الآداب العامة (م14)، بينما الفصل التاسع من دستورنا الحالي يعدد الحريات الأساسية المكفولة بمقتضاه، والتي يمكن أن يوضع حد لممارستها بمقتضى القانون، ولكنه لا يرسم مسبقاً مناط ودائرة هذا الحد الذي قد يفرضه القانون، في حين أن مبرر الحد بالاستناد إلى المادتين 13 و14 من دستور 1908 واضح تماما، ويتعلق بالإضرار بالغير أو المس بحرية الغير أو المس بالآداب العامة. ودستور 1908 نص صراحة في المادة 27 على إبطال «الضرب بالعصي والجلد بالسياط والتشهير والتعذيب بأي آلة من آلات التعذيب وكل نوع من أنواع الأذى، وكل صنع يستهجنه طبع المدنية «إبطالاً فعلياً في سائر أنحاء البلاد، بينما الدستور الحالي لا يتضمن تفصيلاً من هذا النوع باستثناء ما يفهم ضمنيا من تأكيد التصدير على تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً. ودستور 1908 يتناول ممارسة الحرية الدينية بصيغة الجمع، فتؤكد المادة 5 على احترام سائر الأديان المعروفة بلا فرق، و»يحق لأصحابها أن يقيموا شعائر ومعالم معتقداتهم حسب عوائدهم بكل حرية، ضمن دائرة مراعاة الآداب العامة»، بينما يعتمد دستورنا الحالي صيغة المفرد، وهي طبعاً أقل قوة، حيث ينص الفصل 6 على أن «لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»، ولا يفرد مادة مستقلة للأديان ككل على اختلافها كما جاء في دستور لسان المغرب. ودستور 1908 ينص على أن انتخاب أعضاء مجلس الأمة يجري مرة واحدة كل أربع سنوات (م45)، وفي دستور 1996 تبلغ مدة الولاية خمس سنوات، ومن المعروف أن قصر مدة الولاية الانتخابية هي عموماً مؤشر إيجابي بالمعنى الديمقراطي لأنه يعزز فرص التداول، على ألا يصل ذلك طبعاً إلى حدود تعرقل السير الفعلي للمؤسسات. وينص دستور 1908 على أن كلا من المجلسين المشكلين لمنتدى الشورى (البرلمان) يشرع في أعماله بحضور نصف أعضائه على الأقل (م41) وعلى اعتماد معيار موضوعي للتمثيلية في مجلس الأمة، وهي نائب واحد عن نحو عشرين ألف رجل من السكان (م49) وأن «كل عضو من أعضاء المجلسين يعتبر نائباً عن الأمة جميعها وليس عن القوم الذين انتخبوه فقط» (م46). مثل هذه المقتضيات غائبة في الدستور الجاري به العمل حالياً في المغرب، رغم كونها مبادئ متقدمة في الإجمال، ومن شأن دسترتها أن تعزز العمل البرلماني، مع مراعاة تحسين وتحيين صياغتها. وبحسب دستور 1908، فإن مجلس الأمة هو بمثابة غرفة أولى، ومجلس الشرفاء هو بمثابة غرفة ثانية، إلا أنه يمارس أحيانا دورا شبيها ب»مراقبة الدستورية» مما يجعل منه أيضاً نوعاً من «المجلس الدستوري». وإذا قاربناه بهذه الصفة، سنجد أن السلطان لا يتحكم في تركيبته، فهو يعين الرئيس و6 أعضاء فقط من أصل 25 عضواً، والأعضاء الباقون الثمانية عشر ينتخبهم مجلس الأمة وهيئة الوزارة وجماعة العلماء (م51)، بينما المجلس الدستوري اليوم في المغرب، يتركب من 12 عضواً، يعين الملك وحده ستة أعضاء من بينهم الرئيس. ودستور 1908 قضى بأن يعين مجلس الأمة من بين أعضائه «هيئة للتفتيش مؤلفة من 6 أعضاء ورئيس، تقسم إلى قسمين يتجول كل قسم منها في نواحي السلطنة وبلدانها بصفة دائمة، وذلك للبحث في كل أمور الإدارات المخزنية، فيزور كل بلدة وقبيلة مرة في كل 40 يوماً على الأقل، ويبعث تقاريره إلى الرئيس الذي يكون مقامه في نفس مجلس الأمة» (م69). إن لجان التفتيش المشار إليها هنا تشبه إلى حد ما لجان المراقبة التي مازلنا نناضل إلى اليوم في المغرب من أجل التنصيص على جواز تشكيلها من طرف البرلمان، بجانب لجن تقصي الحقائق المنصوص عليها وحدها حتى الآن. ودستور 1908 يتضمن تنصيصاً صريحاً على حق الأفراد في التظلم من تصرفات الإدارة، من خلال رفع شكوى ضد أي موظف كان في كافة أنحاء التراب الوطني، إذا لحق أحد ظلما أو أذى أو رأى في أعمال الموظف وتصرفه شيئاً مما يخالف نصوص إحدى مواد الدستور، إلى منتدى الشورى، الذي يبت في الشكوى «بلا إمهال ولا إهمال». ومثل هذا المقتضى لا نصادفه في متن دستورنا الحالي. ودستور 1908 يشترط في من ينتخب نائباً في مجلس الأمة أن يكون عارفا لمبادئ الكتابة والقراءة باللغة العربية حق المعرفة (م44)، بينما نظامنا الانتخابي الحالي مازال يجيز لأمي أن يكون عضوا بالبرلمان. ودستور 1908 ينص على أن التعليم الابتدائي إلزامي «على قدر مساعدة الأحوال» (م15)، وأن «وزارة المعارف تجبر الآباء بقوة الحكومة إجباراً على إرسال أولادهم الذكور إلى المدارس الابتدائية من سن السادسة، وكل والد خالف هذا القانون يكون تحت طائلة الجزاء» (م85) وأن «التعليم في المدارس جميعها مجاني أي بلا عوض» (م88)، بينما الفصل 13 من دستور 1996 يكتفي فقط بالإشارة إلى أن «التربية والشغل حق للمواطنين على السواء»، بدون بيان الالتزامات المدققة للدولة في تفعيل هذا المقتضى العام. إن الفقهاء الرواد الذين تطوعوا لاقتراح نص دستوري لبلدنا العزيز، لم يكونوا يتصورون ربما أن العديد من المقتضيات التي جاؤوا بها، واعتبروا أن تبنيها يمثل جزءاً من مجهود التأسيس لدولة عصرية، سيمر عليها قرن من الزمن دون أن تنال حظها من الورود في دستور البلد. الآن، وبعد انصرام مائة عام من الانتظار، لم يعد هناك مبرر لانتظار المزيد من الوقت من أجل تمكين المغاربة من إصلاح يضمن مصالحة وضعنا الدستوري مع منطق العصر ورياح الديمقراطية والتقدم.