ما زال المشهد السياسي في ليبيا يتسم بالغموض حتى بعد نجاح الدكتور عبد الرحيم الكيب في تشكيل حكومة تدير شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية، فشركة الخطوط الجوية التونسية أوقفت رحلاتها إلى مدينة طرابلس لأسباب أمنية، وفعلت نظيرتها الفرنسية الشيء نفسه، وتعرض السيد عبد الحكيم بالحاج، رئيس المجلس العسكري لمدينة طرابلس، للاحتجاز عدة ساعات على يد منافسيه من كتائب الزنتان المسيطرة على المطار، وتظاهر مئات من الأمازيغ أمام مكتب رئيس الوزراء، مطالبين بتمثيل أكبر لهم في مؤسسات الدولة، وفعل بعض من أهل فزان الشيء نفسه. وجود صعوبات في مرحلة ما بعد إطاحة الديكتاتورية أمر منطقي مفهوم ومبرر، فليبيا عاشت سنوات من الإهمال، وتحولت إلى حقل تجارب طوال الأربعين عاما من حكم العقيد معمر القذافي، مرة باسم القومية، وثانية باسم الاشتراكية، وثالثة وفق نصوص النظرية العالمية الثالثة وتعاليم الكتاب الأخضر، ورابعة تحت مسمى سلطة الشعب واللجان الثورية، ولكن هذا لا يخفي حقيقة أساسية وهي أن البلد قد يكون وقع ضحية مؤامرة محبوكة جرى طبخها في الغرف الغربية المغلقة. المستر برنارد هنري ليفي -الذي كان ضيفا عزيزا في بنغازي في بدايات الثورة، ويتباهى في كتابه الجديد الذي أصدره للحديث عن تجربته هذه في دعم الثورة والثوار- قد يكون رسم ملامح بعض خيوط هذه المؤامرة بشكل أولي، من خلال الخطاب الذي ألقاه بالأمس (يقصد الأحد) في مؤتمر ليهود فرنسا، ونقلت بعض مقتطفاته صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، وقال فيه صراحة: «لقد شاركت في الثورة الليبية من موقع يهوديتي». وأضاف أمام ما يقرب من 900 شخص: «لم أكن لأفعل ذلك لو لم أكن يهوديا.. لقد انطلقت من الوفاء لاسمي وللصهيونية ولإسرائيل». ليفي قال إنه يقف خلف تدخل حلف الناتو عسكريا في ليبيا، لإنقاذ أهلها من مجازر كان يحضر لها حكم الطاغية معمر القذافي، عندما بادر إلى الاتصال بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي طالبا منه منع مجزرة في بنغازي، وما كان من الرئيس الفرنسي إلا التجاوب فورا، وإرسال طائراته المقاتلة لتدمير الدبابات التابعة للنظام الليبي السابق التي كانت تزحف نحو بنغازي لسحق الانتفاضة الليبية، وهي الانتفاضة التي توعد سيف الإسلام القذافي بإنهائها في غضون أربع وعشرين ساعة. السؤال الملح هو عما يقصده الفيلسوف ليفي عندما قال إنه فعل كل ذلك وفاء لاسمه وللصهيونية وإسرائيل، هل يقصد إطاحة نظام ديكتاتوري كان معاديا للصهيونية وإسرائيل للانتقام من مواقفه هذه، أم إن إغراق ليبيا في الفوضى، وربما إعادة تقسيمها وتفتيتها، وإذكاء نيران حرب طائفية أو عرقية فيها لزعزعة استقرار دول مجاورة شهدت ثورات عفوية وطنية ناجحة، مثلما هو الحال في تونس ومصر، جعلت أبرز أهدافها التصدي لعمليات الإذلال والهيمنة والتجبر التي تمارسها إسرائيل في حق العرب والمسلمين، بدعم من الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب وبتواطؤ بعض الحكومات العربية؟ لا نستطيع تقديم إجابة واضحة عن هذا السؤال وما يتفرع عنه من أسئلة أخرى، لأن سيناريو التدخل الأجنبي، والأمريكي خصوصا، في الثورات العربية المطالبة بالتغيير الديمقراطي ما زال غير واضح المعالم، وربما يكون في بداياته، ونحتاج بعض الوقت لرصد ملامحه بعد أن يهدأ الغبار، ونأمل ألا يكون الوقت متأخرا عندما نعرف الحقائق، تماما مثلما حدث في العراق، عندما تواطأت الأمة العربية مع مشروع غربي لإطاحة نظام باتت تبكي دما لزواله، بعد أن اكتشفت مدى خطورة بدائله بالنسبة إليها. قيام أنظمة ديمقراطية عربية تحتكم إلى برلمانات منتخبة، وهيئات قضائية مستقلة، وشفافية ومحاسبة دقيقتين يزعج إسرائيل دون أدنى شك، ويشكل خطرا عليها أكبر من الجيوش العربية العاجزة الفاشلة، ولذلك فإن منع هذا التحول الديمقراطي يصبّ في المصلحة الإسرائيلية الاستراتيجية، خاصة إذا أدى إلى فوضى وتفتيت للوحدة الوطنية والتراب الوطني. توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وأحد أبرز حلفاء المحافظين الجدد في أمريكا، تحدث منذ اليوم الأول لانطلاق شرارة الثورات الشعبية العربية عن ضرورة أن يكون أي تغيير ديمقراطي في المنطقة «متحكما فيه»، أي «منضبطا»، وهذا يعني خدمة المصالح الغربية، وإسرائيل بالتالي. احتجنا إلى بضعة أعوام لكي نكتشف أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، وقد نحتاج إلى الفترة نفسها، أو أكثر أو أقل، لنكتشف حقيقة دور الفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي وغيره في الثورات العربية، وأطراف عربية أخرى، بشكل مباشر أو غير مباشر. ثورة أو انقلاب الفاتح من شتنبر في ليبيا، سمها كما شئت، كانت «القدس» كلمة السر فيها، مع تسليمنا الكامل بأن رأس النظام انقلب في مواقفه وأرسل من يحج إليها من أتباعه، وطرد أهلها العاملين في ليبيا إلى الصحارى حيث العقارب والثعابين والعراء. والمأمول أن يتذكر حكام ليبيا الجدد هذه الكلمة ومعانيها، ويعملوا على إفشال أي مخططات لتفتيت ليبيا أو إبعادها عن هويتها الوطنية العربية، مثلما يأمل المستر ليفي ويتمنى. لا نشك مطلقا في وطنية الشعب الليبي، ولا ننكر تضحياته من أجل قضايا الأمة العربية المصيرية العادلة، ولكننا نشك في نوايا حلف الناتو الذي قلنا، منذ اللحظة الأولى، إنه ليس مؤسسة خيرية يتدخل لأهداف إنسانية محضة. وما يجعلنا نطمئن إلى وعي هذا الشعب ووطنيته هو إبعادُه لكل الوجوه والعناصر التي لعبت الدور الأكبر في استدعاء حلف الناتو والاحتفاء بالمستر ليفي ورفعه إلى مصاف الأنبياء والقديسين. أمنية أخيرة لن نتردد في ذكرها، وهي ألا تنسى جامعة الدول العربية، في غمرة حماسها لوقف المذابح في حق المدنيين في سورية، أن هناك قضية عربية مصيرية وأراضي عربية محتلة، وحصارا قاتلا مفروضا على شعب عربي، ومؤامرات لإفشال الثورات الشعبية العربية، وفي مصر خاصة، وقبل كل هذا وذاك هناك مبادرة سلام عربية تعفنت على الطاولة الإسرائيلية والأمريكية بعد طرحها قبل تسع سنوات، ولم تقابل إلا بالاحتقار من قبل المقدمة إليهم والتخاذل المعيب من قبل المقدمة منهم.