قلب مقلع للأحجار حياة سكان دوار «وادي بومكلة» رأسا على عقب. آلات المقلع وضعت حدا للهدوء الذي كانت تتسم به هذه المنطقة، التي تتوسط الطريق بين مركز جماعة مولاي إدريس أغبال والبراشوة، على بعد 56 كيلومترا تقريبا من العاصمة الرباط. مياه الوادي، المصدر الوحيد للماء هنا، تلوثت. صار البحث عن ماء يروي ظمأ الناس معاناة كبرى. وباتت النساء يضربن ألف حساب قبل أن يوردن المواشي في الوادي مخافة أن تنفق ويضربن أخماسا في أسداس. مياه الوادي الوحيد تلوثت، والسكان لم يجدوا ماء يروون به ظمأهم. الدواب نفقت بسبب المياه الملوثة. الأطفال المتمدرسون لم يلجوا بعد المدرسة في هذا الموسم الدراسي. ضجيج آلات مقلع الأحجار يصم الآذان من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. تلك أبرز معالم يوميات سكان قرية «وادي بومكلة» بجماعة مولاي إدريس أغبال، التابعة لإقليم الخميسات. سكان هذه القرية، التي تبعد عن العاصمة الرباط، بنحو 56 كيلومترا فقط، قرروا الاحتجاج على طريقتهم للحيلولة دون تجديد رخصة استغلال المقلع. نصبوا خيمة على أعتاب الباب الرئيس للمقلع، بابها يطل على الطريق الوحيدة التي تربط القرية بالعالم الخارجي. مسلك مروري ضيق للغاية مليء بالحفر يربط مركز جماعة مولاي إدريس أغبال ب«البراشوة». احتجاج خاص كانت الشمس ترسل أشعة لافحة. آلات المقلع وأكوام كبرى من الأحجار هي أول ما يرى من المقلع. أما الديار، فكانت متباعدة فيما بينها. قلما يكون بيتان متجاورين. تحجب أكوام الأحجار أشجار الخيمة، ولا تتبدى إلا باجتياز قنطرة الوادي. فقد تم نصبها على الضفة اليسرى لأول منعطف بعد القنطرة، على مشارف أبواب المقلع. يسود المكان هدوء كبير يقول السكان إن المنطقة لم تنعم به منذ حطت شركة المقلع رحالها هنا على ضفاف الوادي. خلت الخيمة من سكان الدوار، ولم يبق من أثر للاحتجاجات عدا لافتة علقت بمدخل الخيمة كتبت عليها الجملة التالية: «سكان دوار بومكلة ينددون بممارسات الشركة ويطالبون السلطة المحلية والجهات المختصة بالتدخل لحماية أبنائهم وممتلكاتهم الحيوانية». وكان باب الخيمة يبدو شبه مغلق بعلمين وطنيين كبيرين مستطيلي الشكل. بعد أقل من ثلاث دقائق، برز ثلاثة رجال، ضمنهم شاب يبدو في مقتبل الثلاثينات. أبدوا أول الأمر ترحيبا بموفد «المساء»، غير أنهم سرعان ما عبروا عن شكوك غير مبررة، رافضين الحديث قبل المناداة على قائد دائرة «البراشوة» ورئيس الجماعة القروية مولاي إدريس أغبال، وبرروا هذا الطلب بضرورة تشغيل آلات المقلع للوقوف على «الأضرار الكبرى التي تلحقها بالإنسان والزرع والحيوان». أنجزت أكثر من محاولة من أجل إقناع السكان بالحديث عن معاناتهم، خصوصا أنهم أودعوا، قبل ثلاثة أيام من الانتقال إلى دوارهم، شكاية يحتجون فيها على الحالة التي آلت إليها حياتهم هنا في «وادي بومكلة» لدى مكتب الجريدة بالرباط. الشكاية المتوصل بها تفيد بدخول حوالي 100 شخص من رجال ونساء وأطفال دوار ادي بومكلة الكائن بجماعة مولاي إدريس أغبال بإقليم الخميسات في اعتصام مفتوح أمام الشركة المستغلة لمقلع «بومكلة» على «واد اكرو». باءت جميع المحاولات بالفشل، وإن كان بضعة رجال من الدوار لم يخفوا «غضبهم» من رفض السكان الحديث لوسائل الإعلام، وأرجعوا ذلك إلى «ارتفاع نسبة الأمية بهذه المنطقة». «اعذرونا فنحن لم نلج مدرسة ولا ندري ما نفعل»، يقول أحد رجال الدوار، بينما راح شاب آخر يصعد هضبة بحثا عن مكان توجد به تغطية لشبكة الهاتف النقال، من أجل المناداة على من قال إنهم «يشكلون لجنة أهالي الدوار المكلفة بالتفاوض مع باقي الأطراف بشأن هذه القضية»، وكان اسم بومهدي الأكثر ترديدا على الألسن، فمن يكون بومهدي؟ إنه رئيس اللجنة سالفة الذكر. وحين كانت «المساء» تستعد لمغادرة الدوار، برزت فجأة سيارة بدا من ترقيمها أنها في ملكية الجماعة، كان يقودها إدريس راضي، رئيس جماعة مولاي إدريس أغبال، الذي طالب السكان بحضوره قبل الحديث. الرئيس مهدد بالقتل كان الرئيس عائدا لتوه من اجتماع محلي عقد بمركز البراشوة. تلقفته أيدي الرجال الثلاثة. رفض في البداية النزول من سيارته، وقال لنائبه الأول، أحمد البوشتاوي: «لا ينبغي أن أكون هنا، ولا ينبغي أن أتوقف بهذا الدوار». وبعد برهة، قذف إدريس راضي في وجه الحاضر من رجال الدوار جملة أصابتهم بالذهول: «أنا مهدد بالقتل هنا»، جملة لم يتقبلها الحاضرون وأقسموا بأغلظ الأيمان أنهم لم يتوعدوه بشيء ولم يهددوه بالقتل. الصمت الذي التزم به السكان انقلب، على حين غرة، إلى كلام وصخب. ترجل إدريس راضي من سيارته، وآوى، رفقة الرجال الذين صاروا أربعة، إلى ظل حجرتين دراسيتين تشكلان فرعية أولاد منصور من مجموعة مدارس «السلام». تحولت الساحة المقابلة للفرعية إلى فضاء مفتوح لاجتماع بين الرئيس وسكان الدوار. هو يؤكد أنه تأثر كثيرا لما بلغه من تهديدات بالقتل، وهم ينفون ويتشبثون به رئيسا لهم. بعد أقل من ربع ساعة، وصل أول فوج من الأطفال، تبعتهم أولى النساء، وكن في مجملهن متقدمات في السن، بينما صار عدد الرجال أكثر من سبعة، وبومهدي المنتظر لم يصل بعد. وفي انتظار بومهدي، تطوع شاب لتوضيح مطالب سكان الدوار. لم تخلُ لهجته من اندفاع، خصوصا أن السكان باتوا يرفعون شعارا واحدا: «نريد أن ترحل الشركة وتدعنا وأبناءنا ودوابنا نعيش في أرض أجدادنا بسلام». لم يكد الشاب ينهي كلامه، الذي أبدى بقية الحاضرين موافقة مطلقة عليه، حتى أسرع إدريس راضي إلى سيارته. بعد برهة، عاد محملا بملف وطلب من أحد الحاضرين تلاوة تقرير مذيل بأكثر من توقيع، ضمنها توقيعه بصفته رئيسا للجماعة القروية «مولاي إدريس أغبال». لسوء حظ الراضي، لم ينبر أي شخص من الحاضرين لتلاوة التقرير، فشرع يتلوه بنفسه بانفعال شديد. التقرير يسجل كل الخسائر التي تكبدها السكان من جراء المقلع ويعدد الأضرار التي لحقت بهم وبأبنائهم ودوابهم ومشربهم ومصادر أرزاقهم. فجأة، فكت جميع العقد التي كانت تكمم الأفواه. تقاطرت المطالب على الرئيس من كل جانب، والتقت الأصوات عند طلب مستعجل: «رحيل الشركة على الفور»، وتمثلت بقية المطالب في إثارة التعويض عن الأضرار التي لحقت بالسكان، لا سيما الذين نفقت دوابهم. ماء ملوث لم يكن عدد النساء الحاضرات يتجاوز العشرة. لم يبدين اهتماما كبيرا بضجيج آلات المقلع، الذي يصم الآذان من طلوع الشمس إلى العاشرة من مساء كل يوم. كانت معاناتهن في البحث عن الماء الصالح للشرب، الخالي من الشوائب، مطلبهن الوحيد. «لو تدري كم نعاني من أجل جرعة ماء نقية»، تقول امرأة تشي ملامحها بأنها في الخمسينات من عمرها، وهي توجه نظراتها نحو رئيس جماعتها. قبل أن تحط شركة المقلع رحالها هنا، كانت نساء الدوار يجلبن حاجيات أسرهن من ماء الوادي، لم يكن مضطرات إلى البحث عن ماء مصطفى أو النبش في الرمل والحصى، على ضفاف الوادي بحثا عن ماء عكر ينتظرن دقائق، قد تطول أو تقصر، حسب حجم الحفرة، لكي يصفى ويصبح صالحا للشرب. اليوم، ما عاد سهلا جلب الماء من الوادي مثلما كان في الماضي. ما عاد بإمكان نساء الدوار أن يملأن جرارهن من مجرى الوادي. وقد انبرت إحداهن لتشرح لرئيس جماعتها التقنية التي تلجأ إليها نساء الدوار من أجل الحصول على ماء صالح للشرب: «نحفر حفرة على ضفاف الوادي، لا نتوقف عن الحفر حتى يبرز الماء وتصبح على شكل عين سطحية. يكون الماء حينها معكرا بفعل الحفر. ننتظر إلى أن يصفو، ثم نستسقي». لا تتوقف المعاناة عند هذا الحد. المجرى الذي كان معلوما في الماضي، أصبح بعد أن شرع في العمل في المقلع دائم التغير. قلما تكون مياه الوادي غير ملوثة، وبالتالي قلما تكون صالحة للشرب. لا ينجم التلوث وتغير المجرى بشكل مفاجئ عن أعمال الحفر وتجميع الحجارة فقط، وإنما يبلغ التلوث ذروته حين يتحول مجرى مياه الوادي الصافية من أجل غسل الحجارة، ثم تعاد إلى الوادي في مجرى قد يختلف عن الأول معكرة غير صالحة للشرب، بالنسبة إلى جميع الكائنات بشرا وحيوانات ونباتات. إلى حدود الساعة، لم يبلغ السكان عن أي وفاة أو ظهور أمراض ناجمة أساسا عن شرب ماء الوادي العكر، غير أن كثيرين منهم قالوا في تصريحات مختلفة إن بعض الأسر فقدت جزءا من ماشيتها. «ثمة من نفقت أغنامه أو فقد بعضا منها على الأقل»، يقول أحد رجال الدوار، الذي صاحب «المساء» في طريق عودتها من «وادي بومكلة»، غير أنه رفض تعداد الأسر التي نفقت ماشيتها أو جزءا منها على الأقل. الطريقة التي تسلكها نساء الدوار من أجل جلب الماء من الوادي ابتكرنها لإرواء عطش مواشيهن. الطريقة واحدة، سواء كان طالب الماء إنسانا أو حيوانا. حفر حفرة على ضفاف الوادي، ثم انتظار زوال تعكر الماء قبل السماح للحيوانات بالشرب. إحدى النساء قالت إن المعاناة تكون أكبر حين يكون عدد رؤوس الماشية المطلوب إرواء عطشها أكثر من ثلاثة. إدريس راضي، رئيس جماعة «مولاي إدريس أغبال»، وعد السكان بالبحث عن حل لمشكلة المياه، غير أنه انتفض في وجه أحد رجال الدوار حين اشتكى له نفوق دوابه، إذ واجه راضي المشتكي بكونه استقدم لجنة لتقييم خسائر السكان من المواشي من جراء تلوث مياه الوادي، لكنه فوجئ، على حد قوله، برجال الدوار ينفون أمام اللجنة، التي ضمت بيطريين، أن يكون تلوث المياه سببا في نفوق بعض مواشيهم. وقال راضي إن «موقف رجال الدوار وضعه في موقف حرج، إلى درجة أن ثمة من وجه إليه تهمة تحريض السكان». معطى آخر لا يقل أهمية في إطار نفوق المواشي، ويتعلق الأمر باستعداد أبداه صاحب الشركة المستقلة للمقلع لتعويض جميع من ثبت تكبدهم خسائر من جراء أنشطتها. استعداد نقله راضي للسكان، الذين جددوا له التعبير عن مطلبهم الوحيد: رحيل شركة المقلع عن دوارهم. تلاميذ خارج القسم عودة الأطفال المتمدرسين إلى فصولهم كان أيضا في صلب مطالب أسر الدوار. كان الرئيس يبدو غير مستعد لمناقشة كل هذه القضايا في الهواء الطلق، حيث كرر أكثر من مرة دعوته السكان إلى بعث ممثلين عنهم إلى مكتبه لبحث الحلول الممكنة لكل المشاكل. أخيرا، التحق بومهدي، بعد قرابة نصف ساعة من بداية «الاجتماع الاستثنائي»، لكنه لم يمنح فرصة كافية للحديث. كان صوت هذا الستيني في المرتين اللتين تحدث فيهما خافتا لا يكاد يسمع، إلا من الواقفين بقربه، وفي مقدمتهم رئيس الجماعة. انضم إلى الاجتماع أيضا مشاركون من نوع خاص. أكثر من 10 أطفال يتابع جلهم دراسته في فرعية أولاد منصور، التي عقد الاجتماع تحت ظل حجرتيها الدراسيتين، تابعوا النقاش بفضول، بيد أنهم لم يتدخلوا إلا حين سئلوا عن أسباب عدم التحاقهم بالدراسة بعد أسابيع من بداية الموسم الدراسي الجديد. كان الجواب موحدا: «الصداع». كلمة ترددت على أكثر من لسان، قبل أن يتطوع أحد الأطفال ويحكي قصة هذا «الصداع»، الذي حرم التلاميذ من مقاعد الدراسة: «لا يمكن أن نسمع شيئا في الفصل إذا كانت آلات المقلع تشتغل». وقال الأطفال إن مسؤولا، لم يكشفوا عن صفته، يهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا أفصحوا لأي مسؤول تربوي عن وجود «الصداع»، ولو كان الثمن التنازل عن مقاعد الدراسة وترك الحجرتين مهجورتين بعد مرور قرابة شهر ونصف من الموسم الدراسي الجديد.
سكان يطالبون بالأمن لا تعرف الطريق المؤدية إلى مركز جماعة «مولاي إدريس أغبال» حركة مرور مكثفة. تبدو في لحظات معينة طريقا قديمة استغنى السكان عن سلكها، قبل أن تبرز في الأفق البعيد سيارة أو عربة تسير الهوينى بسبب ضيق الطريق وتردي حالتها. غير أن السكان، الذين التقت بهم «المساء» في عين المكان، لم يبدوا إلحاحا كبيرا على إصلاح الطريق، بقدر ما عبروا عن حاجتهم الملحة إلى تعزيز الأمن في هذه المنطقة. كثيرون منهم قالوا إنه لا يكون باستطاعتهم المرور بهذه الطريق قبيل غروب الشمس، فبالأحرى بعد أن يرخي الليل سدوله. دوريات الدرك الملكي، الكائن مقره بمركز البراشوة، لا تمر إلا نادرا، وقد أرجع أحد أبناء المنطقة هذا الأمر إلى قلة الموارد المسخرة للدرك مقارنة مع المساحة المطلوب تغطيتها بالمراقبة. كما أن وعورة تضاريس المنطقة وخلو مجالات شاسعة منها من السكان، إلا من تجمعات بشرية صغيرة متباعدة فيما بينها، يسهل على المجرمين تنفيذ عملياتهم. وفي هذا السياق، استحضر أحد أبناء المنطقة كيف تمكن مجرم، فر من قبضة الدرك، من البقاء في منأى عن أيدي السلطات بسبب وعورة التضاريس وخلو المجال من السكان.