عرف مشرق بلاد العرب، كما مغربها، حلقات متفاوتة من العنف الأهلي طوال القرن الماضي، العنف الذي كانت الدولة الحديثة طرفه الرئيسي. خاضت دولة عبد العزيز، على سبيل المثال، معارك متفرقة وحاسمة ضد قوات «الإخوان» الراديكالية طوال السنوات الأخيرة لعقد العشرينيات من القرن الماضي. وخاضت الدولة العراقية الحديثة معارك متتالية ضد الآشوريين المسلحين وضد الحركات الكردية الانفصالية منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى ما قبل سقوط الدولة العراقية أمام الغزو الأجنبي في 2003. ولم ينج الأردن من الصدام العنيف والمسلح بين الدولة والمنظمات الفدائية الفلسطينية خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1968-1971، راح ضحيته عدة آلاف من الجانبين ومن الأهالي. وحتى مصر، التي يقال دائما إنها الأقل عنفا في المجال العربي، شهدت هي الأخرى موجة صدام بالغ العنف والوحشية بين الدولة ومعارضيها من الإسلاميين المسلحين خلال عقد التسعينيات. ولكن ما تعيشه سورية اليوم هو حالة لا مثيل لها من عنف الدولة العربية الحديثة ووحشيتها، عنف مؤسسي ومنظم وعن سابق تصميم وتصور، عنف لا يستند إلى قانون ولا إلى شبهة قانون، عنف انتحاري يضع مصير الوطن والشعب في معادلة صفرية قاطعة أمام مصير النظام الحاكم. تنزع الدولة الحديثة في أصلها إلى السيطرة والتحكم المركزي، بغض النظر عن نظام حكمها وأسس شرعيتها السياسية، ديمقراطية كانت أو استبدادية، دينية كانت أو مدنية. ولدت الدولة الحديثة في سياق من التحولات الكبرى في التاريخ الإنساني، طالت أدوات الحرب وتكتيكاتها، وسائل الاتصال والإدارة والتشريع، تطور أنظمة تجارة وتصنيع وإنتاج، وبروز طبقات وانحدار أخرى. ولأن أوربا، وأوربا الغربية على وجه الخصوص، هي أول من عرف هذه التطورات التحولية، كانت الدولة الحديثة في منشئها أوربية بامتياز. ولدت الدولة الحديثة عندما لم يعد باستطاعة الإمارات الإقطاعية وقلاعها الصمود أمام المدفعية الحديثة والاستخدام الفعال للبارود في صناعة السلاح الفتاك ولا أمام حاجة الأمم الملحة إلى توحيد السوق؛ وولدت عندما فقد الإطار الإمبراطوري الأوربي الجامع شرعية ومبرر وجوده، وأصبح من الضروري الاعتراف بحدود الأمم والدول لتجنب المزيد من الحروب البشعة التي كادت تتسبب في فناء المجتمعات الأوربية؛ وولدت عندما أصبح من الضروري حشد طاقات الأمم وإمكاناتها للتنافس على الفوز بمستعمرات وأسواق وطرق تجارة؛ وولدت عندما لم يعد ممكنا الإبقاء على التشريعات التمييزية، ولاسيما بين أتباع الطوائف الدينية المختلفة، والحفاظ على استقرار الأمم والمجتمعات في الوقت نفسه؛ وولدت عندما لم يعد ممكنا لجهاز الدولة تعظيم موارده بدون تقديم تنازلات ملموسة لمن يفترض فيهم توفير هذه الموارد. وبالرغم من أن كل محاولات تعريف الدولة الحديثة تبدو قاصرة وجزئية (كان نيتشه هو الذي قال إن كل شيء له تاريخ لا يمكن تعريفه)، فقد كانت المركزة (إن صح الاشتقاق) هي السمة الرئيسية لهذه الدولة.. مركزة التشريع والتعليم والقرار السياسي الاقتصادي. في الدولة الحديثة، وضعت نهاية لحرية القضاة والمحاكم والشرعيات التي استندوا إليها، وأصبحت الدولة مصدر الشرعية والمؤسسة التمثيلية المركزية (البرلمان، أو ما شابهه) مصدر التشريع؛ فرضت الدولة سيطرتها على الأسواق وحركة التجارة الداخلية والخارجية، وأطيح بالسيطرات الإقطاعية واستقلال المدن، ثم بالإدارات الذاتية للشركات الإمبريالية الكبرى. ولأن شرعية الدولة الحديثة ارتبطت في صورة وثيقة بالفكرة القومية، كان لا بد من أن تتحكم الدولة في مؤسسة التعليم التي أصبحت بدورها عاملا بالغ الحيوية في تطور الصناعة وسوق العمل والنظام المالي الحديث. وليست المركزة صنوا للتحكم والسيطرة وحسب، بل كانت مستحيلة التحقق بدونهما أيضا. مركزية الحكم والسياسة، أم المركزيات جميعا، ومن ثم مركزية الإدارة والاقتصاد والتعليم، ومركزية بناء الأمة وكينونتها، تطلبت قدرا كبيرا ومتزايدا من امتلاك أدوات العنف، سواء الجيش المركزي، جيش الدولة، أو أجهزة الأمن والتحكم الأخرى. بدون مؤسسات عنف بالغة الكفاءة لم يكن ممكنا الحفاظ على حدود الدولة الأمة، ولا على أمن عملية الإنتاج والتجارة، ولا على خضوع الأمة التعليمي والقانوني لقرارات الحكم المركزي، ناهيك عن خوض غمار التنافس العالمي (الذي رافق ولادة الدولة الحديثة) من أجل تعظيم معدلات الاكتفاء والازدهار والقوة. الحقيقة أن كل الدول الحديثة ولدت في لحظة من انفجار العنف، الانفجار والتشظي الإمبراطوري أو العنف الأهلي أو التحرري. وقد زرعت النزعة إلى امتلاك أدوات العنف والسيطرة والتحكم بالتالي في المركب الوراثي الأولي للدولة الحديثة. بهذا المعنى، لم يعد ثمة من الممكن تصور وجود دولة حديثة بدون مؤسسات تحكم وسيطرة تمتلك أدوات عنف، تعلو في قدراتها عن أية أدوات عنف يمكن للفرد أو الجماعات الأهلية حيازتها. وقد أدركت المجتمعات الحديثة من البداية هذه الطبيعة الفتاكة للدولة، التي كانت قد أنتجتها وأصبحت من ثم أسيرة لوجودها واستمرارها. ويمكن القول إن العقل السياسي الحديث منذ الثورة الفرنسية، على الأقل، وإن العمل والنضال السياسيين، كان في جوهره تجليا لمحاولة الإنسان الحديث كبح جماح الدولة وعقلنة نزعتها العضوية إلى السيطرة والتحكم. توسيع نطاق المؤهلين للتصويت، إعطاء المرأة حقوقها السياسية، ولادة وتطور فكرة الدستور، الجدل الهائل والمستمر حول الحريات وحدودها، ولادة وتنوع الجماعات والهيئات المدنية، والتشريعات الوطنية أو الدولية التي تستهدف حماية الإنسان وتعزيز حقوقه، هي جميعها تعبيرات عن هذا السعي المستمر من أجل وضع حدود لوحش الدولة الحديثة واندفاعه باتجاه مزيد من التحكم والسيطرة. في خضم هذا النضال الإنساني الملحمي، اندلعت ثورات وبذل مناضلون أرواحهم، في الدول الغربية التي شهدت ولادة الدولة الحديثة وفي أنحاء أخرى من العالم، بعدما أصبحت مؤسسة الدولة الحديثة النموذج السائد للدولة والعلاقات الدولية. لم تمض هذه المسيرة الإنسانية في اتجاه واحد، بل عانت الكثير من العثرات والمآسي والهزائم، من الصعود النازي والفاشي، الهيمنة الشيوعية، إلى انتشار دولة الانقلابات العسكرية. ما عاشه المجال العربي منذ بداية حقبة الاستقلال العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، هو مثال صارخ على هذا التعثر، على إخفاق المجتمع الإنساني في وضع حد لمؤسسة الدولة الحديثة وآليات السيطرة والتحكم التي نشرتها. والحقيقة أن هذا الإخفاق لم ينجم، في جوهره، عن خلل بنيوي في المجتمعات العربية. صحيح أن المجتمعات العربية، الإسلامية في ميراثها، عانت صدمة المواجهة مع الحداثة الغربية في صورة تفوق ما عانته المجتمعات الإنسانية الأخرى، وأن مؤسسة الدولة الحديثة فرضت فرضا، وبقوة السلاح واختلال ميزان القوى، على المجتمعات العربية، ولم تكن نتاج تطور تاريخي طبيعي، وأن المجتمعات العربية لم تحسم خياراتها مطلقا بين الدولة الوطنية القطرية والدولة العربية القومية أو ما يسمى أحيانا بالدولة الإسلامية؛ ولكن الصحيح أيضا أن مؤسسة الدولة الحديثة في تجليها العربي كانت، في أغلب الحالات، انعكاسا لموازين ومصالح وحاجات دولية، سواء في مرحلة الحرب الباردة أو بعدها. في هذه المنطقة بالغة الحيوية لتوازنات ومتطلبات القوى الدولية، ارتبطت مصالح هذه القوى بالدولة العربية وأنظمة حكمها أكثر بكثير مما ارتبطت بالشعوب والمجتمعات العربية. بيد أن سيطرة الدولة العربية وتحكمها لم يستندا إلى الدعم الخارجي وحسب، بل وإلى خبرة الحكم ذاتها وإلى جملة من التطورات الموضوعية، التقنية وغير التقنية، التي طوعت من أجل خدمة أهداف السيطرة والتحكم. أفادت الدولة العربية في البداية من كونها دولة ريعية أو تحت ريعية، غير ذات حاجة ملحة إلى الموارد الضريبية، من أجل تعزيز مقدرات السيطرة والتحكم. وسرعان ما تبنت الدولة التقدم الكبير في وسائل الإحصاء والتسجيل والرقابة، في طرق التعليم المركزي والدعاية والإعلان وفي تقسيم قوى المجتمع واللعب على مخاوفها المتبادلة والمصطنعة، من أجل تحقيق المزيد من السيطرة والتحكم. وفي حال أخفقت هذه جميعا أو فرضت عليها مواجهة التحدي الشعبي، لم تتردد الدولة العربية في اللجوء إلى آلات القمع المطلقة، الممثلة في سلاح أجهزة الأمن وقوات الجيش. ومنذ نهاية القرن العشرين، كان تغول الدولة العربية قد وصل مستوى لم تعرفه سوى قلة من الكيانات السياسية الأخرى عبر العالم، بما في ذلك دول مثل تشيلي العسكرية أو ألبانيا وكوريا الشيوعيتين أو جنوب إفريقيا العنصرية. تماهت أنظمة الحكم العربية تماهيا شبه كامل وشبه شامل مع مؤسسة الدولة، حيث لم تعد هناك مسافة تذكر بين الدولة كمؤسسة اجتماعية مستقلة وبين أنظمة حكم ذات طابع أو مرتكزات فئوية ضيقة أو طائفية أو قبلية وأسرية، وكرس القطاع الأكبر من موارد الدولة لصالح منظمات أمن النظام وأدوات القمع المختلفة، وتقدمت الفئات الحاكمة سريعا بعد تبني أنماط مشوهة من الاقتصاد الليبرالي والنيو- ليبرالي، لامتلاك ناصيتي السلطة والثروة معا. ما تشهده سورية اليوم هو طور ما بعد تغول الدولة، طور الاضمحلال الحثيث لمؤسسة الدولة ومقدراتها السياسية حتى في نموذجها العربي المتأخر، حيث هيمنت أنظمة الحكم على مؤسسة الدولة. عندما يتم التخلي عن مجالس التشريع المركزية، حتى تلك الواقعة تحت سيطرة نظام الحكم، وتستبيح الدولة دم شعبها بهذا المستوى والانتشار والتصميم الذي تعيشه سورية منذ مارس الماضي، ويقوم النظام بانتهاك منهجي لحرمات المجتمع القيمية والدينية، وتتخلى الدولة/نظام الحكم كلية عن واجباتها في حماية مواطنيها، لتصبح الدولة المصدر الأكبر لخوف المواطنين وفقدانهم الأمن، ويلجأ الحاكم إلى عصابات مسلحة، غير ذات صلة بأدنى مستويات مؤسستي الجيش والأمن، تنظيما وانضباطا، لإيقاع الهزيمة بشعبه؛ وعندما تعتمد طرائق العصابات الإجرامية من الاغتيال والاختطاف لإعادة توكيد سيطرة وتحكم الدولة/نظام الحكم، تفقد الدولة الحديثة كل مبرر لوجودها. ليست سورية في طريقها إلى الحرب الأهلية، هي بالفعل في خضم حرب كهذه؛ فالصراع الدائر حول مستقبل سورية، حول حرية الشعب السوري وكرامته، لم يعد يدور بين نظام حكم نجح في إخضاع الدولة كلية لأهدافه، كما هي دولة الاستبداد العربية المتغولة، وجماهير الشعب السوري الثائرة. هذا صراع بين الشعب وفئة إجرامية تلبست بلباس نظام الحكم والدولة.