لا يمكن لذلك الصباح أن يمّحي من ذاكرتي، وقف مدير المدرسة الابتدائية أمام الطلاب المصطفين بعدة طوابير، ثم نادى على ثلاثة أسماء للتقدم نحو المنصة، كنتُ للأسف صاحب أحدها، خرجنا ثلاثتنا من الطابور وتقدمنا متوجسين خيفة إلى المنصة، فالمدير لا ينادي أحدا لإكرامه، فمن أساء عند مديرنا له عشرة أضعاف إساءته، أما من أحسن فليحمد الله على نجاته من عقاب افتراضي جاهز، وقفنا بين يديه وقد اختلفت ألوان وجوهنا بعد أن فهمنا سبب استدعائنا؛ كان كل واحد منا يحاول تخيّل العقوبة التي سيحظى بها، وهي عادة عدد من الجلدات على راحتي اليدين أو المؤخرة، أمرنا المدير بالوقوف في مواجهة طوابير الطلبة ثم صاح بمكبر الصوت بلهجة تنضح تهديدا ووعيدا: «هل تعرفون ماذا فعل هؤلاء الأبطال... لقد رفعوا رأس المدرسة عاليا»! يلتفت إلينا تارة وإلى طوابير الطلاب تارة أخرى، ثم يلتفت إلى المعلمين الذين وقفوا جانبا، وقد ازدادوا تقطيبا وجهامة بعد أن فهم الجميع من مرارة لهجته أننا قد جلبنا العار للمدرسة ولأهلنا ولأنفسنا. اشرأبّت الأعناق وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر حتى نطق قائلا بلهجة مأساوية: «هؤلاء الثلاثة سرقوا حمار دار أبوعادل... الحمار الأخضر»، ثم أضاف بحركات تمثيلية: «ويا ليتهم اكتفوا بسرقته، فقد جعلوا من هذا الحيوان المسكين تسلية لهم.. ثم تفنن هؤلاء المجرمون في تعذيبه... ثلاث جرائم ارتكبها هؤلاء السفلة دفعة واحدة». قال أحد شريكيّ: أستاذ ركبناه ولم نعذبه... وقال الثاني: وحياة الله أستاذ لم نعذبه، ركبنا عليه وبس... ثم أشار إليّ وقال: هو الذي ركّبني عليه غصبا عني. وراح المدير يتمايل ويتساءل باستنكار: وهل هو حمار أبيكم.. ثم لماذا عذبتموه.. أليست في قلوبكم رحمة.. ما الذي فعله لكم هذا الحيوان الأعجم.. ألا تعلمون أن للحمار روحا مثل أرواحكم... أليس هذا من خلق الله..؟ لقد سخر الله الأنعام لنا كي تخدمنا في أعمالنا وليس لنسرقها ونعذبها. ثم أضاف قائلا: حسنا، وبما أن الجرم كبير جدا وأنا كما تعلمون أحب العدل ولا أظلم أحدا، فلن أنفرد بقرار العقوبة، أنتم أيها الطلاب ستقررون ما هي عقوبة هؤلاء المجرمين، الآن سوف تدخلون إلى الصفوف، وفي كل صف ستجري عملية تصويت على ماهية العقوبة ليكون هؤلاء عبرة لمن يعتبر، ستأخذون للحمار وصاحبه حقهما. وبهذه المناسبة، قررت تلقينكم درسا في المدنيات والديمقراطية، كل طالب سوف يسجل اقتراحه على ورقة من دون أن يرى جاره شيئا عن عدد الجلدات التي يقترحها عقوبة لهؤلاء، وإذا كان يريد إضافة بند آخر غير الجلد فليكتب. كان عرسا حقيقيا للديمقراطية، فقد جرى الاقتراع في أجواء سرية ونزيهة جدا، بينما ننتظر ثلاثتنا برهبة حكم الشعب، فبعض الطلاب قرر أن يكون متسامحا معنا وكان رؤوفا رحيما، بينما قرر بعضهم أن ينتقم منا لسبب أو لآخر، وبعض المعروفين بنذالتهم ونفاقهم راحوا يروّجون لعقوبة تصل إلى ثمانين جلدة، هكذا تم فرز الأصوات وأجريت حسابات على الأصوات الصحيحة، إذ كان هناك عدد من الأصوات اللاغية التي كتب أصحابها أسماءهم عليها وهذا ممنوع في انتخابات سرية، ثم إن بعضهم اقترح براءتنا وهذا غير وارد، واشترك فيها المعلمون والطلبة وجُمع عدد الجلدات ثم تم تقسيمها إلى صنفين راحتان ومؤخرة على عدد الطلاب المشتركين في الاقتراع، كانت النتيجة طيبة بالنسبة إلينا، فقد تبين أن نصيب كل واحد منا هو ثماني جلدات على راحتي اليدين وأربع جلدات على المؤخرة فقط، وأن نطلب الاعتذار والسماح أمام كل الطلاب من عائلة أبو عادل والالتزام مستقبلا بمعاملة الحيوانات، وخصوصا الحمير، معاملة حسنة؟ وإذا ما عدنا إلى هذه الجريمة تضاعف لنا العقوبة. وهكذا جلدنا المدير على راحات أيدينا ومؤخراتنا أمام جمهور الطلبة والمعلمين وبحضور وليّ أمر الحمار الذي كان معروفا للصغير والكبير في قريتنا في تلك الحقبة، وكان الناس ينظرون إليه بكثير من الاحترام والتبجيل (للحمار) وبإيمان بأنه مختلف ويستحق الرأفة والرحمة، فقد حللوا ضرب كل حمار إلا ذلك الحمار الأبيض الذي كانوا يسمونه «الحمار الأخضر»، وحتى يومنا هذا لم أفهم لماذا أطلق أهلنا على حمار أبيض اللون.. تسمية (الحمار الأخضر)، وما هو سر التمييز لصالحه، ولماذا كل هذا التبجيل والتقدير وحتى القدسية التي حظي بها. صارت قصة الحمار الأخضر واحدة من ذكرياتي المدرسية الجميلة، وخصوصا درس الديمقراطية الأول والانتخاب السري الذي منح للطلاب في ذلك النهار، رغم شعوري بأن المدير منح الحمار الأخضر أكثر بكثير مما يستحقه، وأن أبا عادل بالغ في ادعاء الأذى الذي سببناه للحمار. وللحقيقة والتاريخ وليس تهربا من المسؤولية، فنحن لم نضرب الحمار ولم نعذبه، بل استعملناه للتسلية والركوب فقط، بل وأؤكد وأقسم صادقا أننا سمحنا له بتناول الأعشاب من دون مضايقات تذكر، ولكن يبدو أن صاحب الحمار غضب غضبا شديدا عندما بحث عن حماره ولم يجده لساعات، حتى ظن أن سوءا قد مسّه، والأهم أننا حطمنا القدسية التي أحاطت بحماره، فكانت شكواه ضدنا قاسية ومليئة بالافتراءات. هكذا كلما ذكر المرحوم أبو عادل تذكرنا حماره، وكلاهما صارا في دار الحق، والشيء بالشيء يذكر، فقد تذكرت الحمار والديمقراطية والعودة إلى الشعب في القرارات المصيرية عندما رأيت، مثل ملايين غيري على الشبكة العنكبوتية، مجزرة الحمير في سورية، وقد تميزت الثورة السورية عن شقيقاتها العربيات في حرب الإعلام الإلكترونية الدائرة بين مؤيدي النظام ومعارضيه، الحرب على شريط الفيديو ورسالة الهاتف المصوّرة ونشرها في المواقع الاجتماعية والفضائيات والادعاءات المضادة والتكذيب ثم التكذيب المضاد. أكثر من مجند على الشبكة في صفوف جيش النظام الإلكتروني طالبني بالكف عن الكتابة عن الثورة السورية ونقل أشرطتها وأخبارها وأن أهتم فقط بشؤون فلسطين الملحة والكثيرة، وقال بعضهم.. أنت تنسى كل ما يدور في فلسطين لتكتب عن سورية.. اتركوا للشعب السوري أن يقرر مصيره بنفسه! هؤلاء الإخوان (الإلكترونيون يستحمرون الناس ويريدون فصل ما لا يمكن فصله، فلسطين ليست للفلسطينيين فقط، تماما مثلما أن مكة ليست للسعوديين فقط، ولهذا ما يجري في أي حي في أي مدينة أو قرية عربية، خصوصا في سورية يهم ويؤثر على فلسطين، خصوصا أن فلسطين في الأصل جزء من بلاد الشام. ليس سرا أن الحرب الإعلامية الشرسة أحدثت نوعا من البلبلة لدى بعض الناس، ومنهم أصدقاء وأقرباء شرفاء مثل الزميل ابن أبي عادل صاحب الحمار الأخضر الذي ناقشني في مناسبات عدة، فخلط بين سورية الشعب الذي نحبه والنظام الذي نمقته، ظننت أنني أفحمته عندما ذكرت له شريط (مجزرة الحمير) التي ارتكبتها عناصر من الجيش السوري، وذكّرته بالحمار الأخضر الراحل وما حدث بسببه، فأكد أنه رأى الشريط ولكنه لا يعرف مدى صحته، وما لبث أن هاتفني بعد أيام ليقول لي.. اسمعني مليح.. بالنسبة إلى مجزرة الحمير التي تحدثنا عنها، تبين أنها وقعت في أفغانستان وليس في سورية. على كل حال، ماذا أقول لك يا صاحبي... إذا كان النظام قد وجد تخريجات لحوالي ثلاثة آلاف ضحية من البشر وآلاف المعتقلين، فهل سيعجز عن تخريجة واحدة لمجزرة حمير..