من لا يتحمل صلاة جمعة في شهر رمضان المبارك، كيف يمكن له أن يصنع سلاماً مع الفلسطينيين والعرب... هذه المعادلة البسيطة التي تطل علينا كل عام مع الإجراءات الصهيونية بمنع المصلين من الدخول إلى الحرم القدسي، لا تكشف فقط بوضوح حجم التناقض بين ما يروج له أهل الكيان الصهيوني وحلفاؤهم من احترام لحقوق الإنسان، ومن صون لحرية المعتقد والتعبير والعبادة وبين ما يمارسونه بالفعل، بل إنها أيضاً تكشف الحاجة العميقة لدينا جميعاً إلى مراجعة عميقة لسياسات واستراتيجيات ومراهنات أوقعت أصحابها في فخ الرهان على تسوية مع الصهاينة المحتلين فدفعوا، ومعهم شعوبهم، الثمن غالياً لهذا الرهان. لعل هذه المراجعة هي العنوان العريض لمرحلة يجب أن ندخل إليها كفلسطينيين وعرب، فيما العالم بأسره يخرج من مرحلة كادت فيها القوة أن تصبح «حقا»ً، «وأن يصبح فيها الأقوياء دائماً على حق»، فندخل مرحلة ليس عنوانها تعدد الأقطاب على المسرح الدولي، كما يقال، بل تعدد الانتفاضات، كما نرى على امتداد منطقتنا والعالم. فبعد أن كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عنواناًً لحجارة أطفال صغار لم تخفهم جنازير دبابات العدو ولا «قبضته الحديدية» في أواخر الثمانينات، باتت الانتفاضة اليوم، بكل تجلياتها المقاومة والممانعة والعصية على الإملاءات الخارجية، نهجاً يتعاظم تأثيره، وتتراكم تداعياته، وتمتد تعبيراته في كل أرجاء المعمورة. وإذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، انتفاضة الأقصى، قد انطلقت من الحرم القدسي ذاته الذي حاول شارون تدنيسه في أواخر أيلول 2000، في رد غير مباشر على رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات التفريط بالقدس ومقدساتها في مفاوضات كامب ديفيد الشهيرة مع باراك وبرعاية كلينتون، فإن التصميم الإسرائيلي اليوم على منع الفلسطينيين من الوصول إلى الأقصى في شهر فضيل قد يكون شرارة لانتفاضة فلسطينية جديدة تحمل لها شعارين في آن معاً: انتفاضة بوجه الاحتلال، وانتفاضة بوجه الانقسام، فالاحتلال والانقسام يغذيان بعضهما البعض، الأول يشجع الثاني ويحول دون تجاوزه، والثاني يبرر الأول ويحول دون حشد الطاقات لمواجهته. إن مشهد المصادمات العنيفة في قلنديا بين أهل فلسطين المتدفقين إلى القدس للصلاة في مسجدها المبارك، وبين قوات الاحتلال التي تخشى صلاة المؤمن بقدر خشيتها من رصاصة المقاوم، يجب أن يكون حاضراً بقوة في لقاءات الحوار الوطني الفلسطيني التي ترعاها، هذه الأيام، القاهرة المدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى أن تفتح معبرين في آن معاً، معبر رفح لكسر الحصار عن أهالي غزة، ومعبر الوفاق بين القيمين على الأمور في الضفة والقطاع.. بل القاهرة مدعوة إلى أن تتذكر أنه في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين عاماً كان رئيسها يوقع معاهدة كامب ديفيد مع بيغن وهو يقول: «لقد دخلت المنطقة عصر السلام»، فيما شهدت المنطقة على مدى الثلاثين سنة الماضية أقسى أنواع الحروب وأبشعها وأشدها قسوة ووحشية وتدميراً. ثم ألا يدرك كل مسؤول فلسطيني وعربي اليوم أن أبناء فلسطين وهم يراشقون بالحجارة عدواً يمنعهم من الصلاة في الأقصى، إنما يحملون في صدورهم غضباً وعتباً، الغضب على المحتل الغاصب المستعمر المتوحش، والعتب على قيادات فلسطينية غارقة في الانقسام، وقيادات عربية غارقة في العجز أو التواطؤ. فهل يكون مشهد الأمس على أبواب القدس والأقصى، دعوة إلى مراجعة فلسطينية وعربية جريئة وصادقة ومتجاوزة لكل الحسابات الصغيرة والحساسيات العابرة، بل هل يكون هذا المشهد نداء للجميع لكي يتراجعوا عن أخطائهم، سواء ما كان منها في الخيار أو ما كان منها في الأداء، فالخيارات الخاطئة تقود حتماً إلى أداء خاطئ، والأداء الخاطئ يخدم باستمرار الخيارات الخاطئة. وليتذكر الجميع أن العالم بأسره يخرج من عصر الرضوخ لإملاءات إدارة بوش، وعنجهية حكومة أولمرت، ليدخل في عصر الانتفاضات، سواء كانت انتفاضات حركات أو شعوب أو دول أو حتى قارات.