أفرز «الربيع العربي»، كما سمّتْه الصحافة الأوربية تحديدا، فوضى على مستوى الخطابات، خصوصا بالنسبة إلى الزعماء المستبدين، الذين هرب البعض منهم أو تم خلعه ومحاكمته.. بينت هذه الفوضى في الخطابات الواقع الملتبس لعدوانية السلطة، حيث لم تعد اللغة قادرة على ممارسة فاشيتها المعلنة ولا السلطة على تبرير سلوكاتها الاستبدادية أمام الحشود من الناس التي انتفضت وثارت. إنها اللحظة التي فقد فيها خطاب المستبد بَوصلتَه الوحيدة، التي هي الاستفراد بالسلطة وإلغاء الآخرين كلية... الرئيس التونسي الهارب، بدا جزعا وهو يكرر بالدارجة التونسي: «راني فْهَمْتكُوم»... والفرعون المصري المخلوع ابتكر فعلا جديدا غيرَ موجود في العربية، حين قال: «ألم أكن أنتوي الترشح؟».. علما أن الرائج والمألوف هو فهل «نوى، ينوي»... أما رئيس نظام البعث السوري بشار الأسد، المولع بالبلاغة والخطابة والمواقف المسرحية، فقد شبّه العُزَّل من المدنيين الثائرين على سلطة الزعيم وعائلته ب»الفيروسات والجراثيم»... لكنّ الذي حاز قصب السبق في الإبداع اللغوي والخطابي للشتائم، انطلاقا من معجم حيواني عنيف، هو، دون شك، العقيد الليبي، المجنون، صاحب خطاب «زنكة... زنكة»، الذي وصف، في خطاباته البارانوية الهذيانية الموثورة، أفرادَ شعبه بأنهم مدمنو حبوب الهلوسة و»مقملين»، أي مصابين بالقمل، قبل أن يصفهم باستعارة حيوانية عارية حين صرخ: «شُدّو الجرذان»!... الملاحظ أن المعجم الحيواني الذي وظّفتْه الثقافة العربية، منذ الشعر الجاهلي وحتى الآن، كان يحتفي بالناقة والجمل والكلب والظباء وغيرها من الحيوانات، علما أن الساسة من أمراء وسلاطين لم يوظفوا كثيرا من الاستعارات الحيوانية، وحتى حين أراد الحجاج بن يوسف الثقافي، رجل السياسة الدموي ووالي البصرة والكوفة في عهد الأمويين، ترهيب الأعداء من على منبر مسجد الكوفة، ترجم عنفه الصريح قائلا: «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها»... لا نكاد نعثر في الخطابات السياسة المتطرفة (هتلر -موسوليني/ اليمن المتطرف) سوى على نعوت في إطار معاداة السامية، تُشبّه اليهود ب»الحشرات الحقيرة» (enimrev aL) وتنعت العربي بتعبير: «العربي القذٍر». نعثر، أيضا، في خطاب نيكولا ساركوزي، الشهير، حين كان وزيرا للداخلية في حكومة شيراك على وصف المهاجرين من العرب والأفارقة في الضواحي المهمشة، بأنهم مجموعة من «الحثالة»، التي ينبغي تنظيفها بالمسدس المائي (rehcak)... لكن الجرذ، والجرذان عموما، ظلت حيوانات دائمة الحضور في المتخيَّل الغربي على مستوى القصة والرواية والإبداع السينمائي. يمكن الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى خرافات لافونتين وإلى كتاب «الأمير»، لماكيافيلي، حيث ينصح المفكر الأمير بأن يكون «ثعلبا وذئبا وأسدا» أمام شعبه، حسب ما تقتضيه السياقات، أي أن يمزج، في ممارسته السلطة، بين المكر والمخاتلة والبطش. أما حكايات كافكا فتحفل بالكثير من الحيوانات، بدءا من غريغور سامسا، الذي تحول إلى حشرة في قصة «المسخ»، وإلى الجرذان في قصة «جوزيفين المطربة وشعب الجرذان»، التي تسحر هؤلاء بصوتها، لكنها تخفق في إنقاذهم من مكائد التاريخ ومن عري المصير... غالبا ما يلجأ المستبد إلى تشبيه شعبه بالحيوانات متدنّية القيمة أو بالجراثيم التي لا تُرى إلا بالمجهر.. حين تترنح سلطته الاستبدادية ويتسرب الشك إلى جبروته ويلفي نفسه في ورطة سياسية وجودية في آن، ويتعرى أمام الناس ويصبح فاقدا البراهين المُتخيَّلةَ التي برر بها، لسنوات عديدة، «شرعيتَه» الوهمية. إن الهدف من امتياح الأوصاف الحيوانية من طرف المستبدّ لنعت أفراد شعبه بها هو تجريد هؤلاء من صفاتهم الإنسانية، أولا، والسياسية، ثانيا، والقانونية، ثالثا، باعتبارهم أناسا وباعتبارهم مواطنين وباعتبارهم، أخيرا، ذواتا للحقوق في أسفل الهرم الحيواني... يتناسى المستبدون، في هذا السياق، أن لفظ «الحيوان»، يعني في اللغة العربية الحياة، أيضا (انظر لسان العرب). إن وصف أفراد الشعب ب«الجرذان» معناه أن السلطة المستبدة لا تُولي أدنى اهتمام لإنسانية الإنسان ولحقوقه ومواطنته ولا تحمل غير الخضوع المطلق، وأن الجماهير التي يخطب فيها الدكتاتور ينبغي أن تظل شبيهة بمزرعة للحيوانات الأليفة منها بالمجتمع الحر، الذي يتمتع فيه الأفراد بالعدالة والمساواة.. كما يدل هذا التوظيف المفرط للمعجم الحيواني على سقوط فظيع لِلُغةِ الطاغية ولسياسته وأخلاقه، والغريب أن العقيد الليبي، المجنون، قد انخرط، هو نفسه، في النهاية، في الصيرورة -جرذا ضالا وهربا في فيافى الصحراء الليبية مترامية الأطراف.. إن الدولة الاستبدادية، ذلك الوحش البارد، لا تفترس فقط المعارضين والمواطنين العُزّل، بل تلتهم، أيضا، مُبدعيها وقادتها.