الفتوى تعني أن المجتهد استفرغ جهده في الحكم، ثم أعطى رأيه في مسألة حيوية يختمها دوما بأن هذه رأيه والله أعلم. ولكن الحاكم والمؤسسة الدينية (أي الفقيه والفتوى) لها عمل مختلف، فمهمتها الأولى، في ظل نظام استبدادي، هي الشرعنة للحاكم المستبد كما حصل ما بين فرعون والسحرة، فهم طلبوا المال وهو أضاف النفوذ. في تاريخ 30 شتنبر 2011م، خرج رجل الدين اليمني فأفتى، بحضور طاغية اليمن (صالح)، بفتوى غير صالحة مفادها أنه يحرم الخروجُ على الحاكم ولو أخذ مالَك وبَشَر جلدَك وركب عنقَك، لأن الخروج على الحاكم فتنة، فيجب قتل هؤلاء المفسدين وتحريم التظاهر لأنه ممنوع، وهو ممنوع لأنه حرام! قالها وجنود صالح يقتلون المتظاهرين العزل السلاميين في جمعة شامنا ويمننا. ما قاله الفقيه اليمني كرره الفقيه السوري الحسون والبوطي وفقيه قم والأزهر وبطريرك لبنان. كلهم بعمامات وقلانس وطرابيش وأسماء كبيرة، مهمتهم هي سند الحاكم المجرم الدموي ووصف أنياب الأسد بكونها أسنان طفل لبنية! نحن هنا في معسكر مواجهة بين النظام وامتداداته من فقهاء السوء في مقابل جند الله من الثوار للحرية والعدالة. لا جديد في رجال الدين، فهذه هي وظيفتهم منذ أيام كافور الإخشيدي والحجاج، وهذه هي تماما وظيفة المؤسسة الدينية ورجل الدين والفقيه المعمم المطربش. تماما كما في بنطلون الطفل، وصدرية المدرسة، وتنورة المرأة، فالخياط (الفقيه) جاهز لتركيب الفتاوى حسب الأوامر السلطانية... ومنذ أيام فرعون (بيبي الثاني) كانت مهمة الكهنة حفظ الأسرار وركب ظهور العباد كالحمير المسرجة وبث الوعي الخرافي بأن نسل فرعون من السماء وأن شكله بشري، ولكن لسانه من لحم الرب وكلمته قانون الوجود الأعلى، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأنه سيرجع إلى السماء بواسطة زاوية سرية من الهرم، فاشتغل في بناء أهرام خوفو عشرون ألفا من الأنام، يبدلون كل سنة، فلم يبق أحد من الشعب الفرعوني إلا وحمل حجارة خوفو على خوف فوق كتفيه المنهكتين، واستمر ذلك تخطيطا وتنفيذا أربعين سنة.. كما هو الحال في معظم حكام العالم العربي، فهم الفراعنة الجدد. ولذا أطلق القرآن مصطلح الجبت والطاغوت، فأما الطاغوت فهو الذي يملك الرقاب بقوة السلاح والطغيان والجاندرما والمخابرات والمباحث وتجهيل الناس ثقافيا بالفتاوى الدينية.. وأما الجبت فهم الكهنة والمفتي وشيخ الديار الذي يخيط ويفصل الفتاوى حسب رغبة الطاغوت والملك والعاهل ورئيس الجمهورية الديكتاتور.. ومنه دمج القرآن بين الكلمتين، يؤمنون بالجبت والطاغوت.. ومن هذه الفتاوى الشيء الكثير.. الحجاب واللباس، وإرضاع المراهق، وقيادة المرأة للسيارة، وما هو جنس الملائكة.. ذكر أم أنثى؟ وهل يفطر اللعاب؟ وخنق الرضيع أخ السلطان العثماني يوم توليه العرش، حفظا للكرسي، وأمنا للفتنة بفتوى من شيخ الديار العثمانية كما هي الحال في فتوى رجل الديار اليمنية والشامية. والتجنيد للحرب في العراق يوم دخلها جند الأمريكان جاءت بفتاوى من الحزب البعثي، مطلية بدهان من سندس وإستبرق بيد مفتي الجمهورية.. يكاد الإنسان يعثر على هذه الظاهرة المرضية في كل التاريخ الإسلامي، ومنها الفتوى الواردة في موضوع حجاب زوجات النبي ولباس المرأة المسلمة، وهو أمر ليس بالجديد، بل موجود في آيات بينات، ولكن مع ضغط الثقافة لا ينفع نص ولو فتحت السماء ونزل عليهم كتاب يقرؤونه.. وهذا ينفعنا بأن الإنسان يقرأ ليس بلغة واحدة، بل بحواف الكلمات ولحن القول وسيمياء الوجوه.. وأذكر من الراحل عبد الحليم أبو شقة، حين كان يضع كتابه الموسوعي حول «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، أن الفكر الديني في مصر كان يلحق كل تطور على نحو دبري، فإذا افتتحت المدارس الابتدائية قالوا حلال فأرسلوا بناتهم، ولكن الثانوية حرام! فإذا افتتحت الثانوية قالوا الثانوية حلال والجامعة حرام للاختلاط، واليوم دخلت المرأة المسلمة كل مجال. وفي مؤتمر جراحة الأوعية الدموية في الرياض في 10 يناير 2010 م، تقدمت سيدة جرّاحة في الأوعية فعرضت حالة أم دم منثقبة أنورزما في منطقة ما فوق الشريان الكلوي، عرضت الحالة النادرة وناقشت من سألها وهي متنقبة، فالنقاب لا يمنع الكلام، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. ونصف المظاهرات في الثورة الإيرانية كانت النساء بالشادور.. ولم تكن بريطانيا لتتحرر لولا مصرع بانكهورست دهسا بالأقدام في مظاهرات حق المرأة في التصويت عام 1912م.. من قرأ القرآن مر على أربعة مواضع تتعلق بلباس المرأة أو اللباس عموما، الأولى من سورة النور عن الخمار، وليس فيه من حديث عن كشف الشعر من تغطيته، ولكن شقوق الصدر بين النهدين.. وحين تكلم الشحرور عن الموضوع أصبح رأسه مطلوبا للعدالة. وفي آخر سورة الأحزاب حديث عن الجلباب، وأكدت الآية أنه من أجل معرفة النساء المؤمنات فلا يؤذين؛ فلا علاقة له بالموضوع الجنسي. ومنه أمر عمر (رضي الله عنه) أمة من ملك اليمين أن تخلع اللباس، فقال لها: يا لكاع تريدين أن تقلدي الحرائر.. فهذا فصل هام في موضوع اللباس والجنس.. فاللباس لا علاقة له بالجنس. وفي سورة الأحزاب أيضا كلام واضح عن زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) في الاحتجاب الكامل عن الناس بفاصل، وعدم الزواج منهن بعد وفاة النبي. فهذه من خصوصيات زوجات النبي، أما غطاء الرأس الحالي الذي صدع الرؤوس فهو لباس المرأة المسلمة ولا علاقة له بحجاب! أما سورة الأعراف فقد وضحت وظائف اللباس بثلاث: العورة والجمال والثقافة، فقالت: قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى. وهذا يعني أن المرأة المسلمة ولباسها يعود إلى ذوقها هي بالذات، فتلبس بدون وصاية من الرجل عليها على نحو محتشم لا يثير الغرائز.. ومن علم الكهرباء نعرف أن سلكي الكهرباء يجتمعان متلاصقين ومبتعدين مفترقين عن بعضهما ولا يلتحمان إلا في نقطة واحدة، ومن هذه النقطة تتولد ما يعرف بالكهرباء فتضاء الأنوار وتعمل الآلات.. وكذلك العملية الجنسية بين الرجل والمرأة، فهي سير مزدوج بجنب بعضهما بدون التحام، والتحام كامل في نقطة الزواج، فتحضَّر المرأة المجتمع وتدخل الأنسنة له، وتقود السيارة والطيارة، وتعمل جراحة ومحامية وواعظة.. كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه.. فقط البورنو واستغلال المرأة هو الذي يجب أن يحرم في مجتمع نظيف اسمه المجتمع الإسلامي.. وبذلك نصل إلى خلاصة هامة في موضوع الفتوى وهي أنها فهم عميق لحركة المجتمع ومفاصل السياسة ومصالح الناس، وليس من مكان لرجل الدين أو فقيه السلطة. وهناك فرق واضح بين فقيه الثورة وفقيه السلطة. وحاليا يبرز فقه جديد اسمه فقه الثورة لقوم يعقلون.