لماذا اتجهت إلى ترجمة الشعر الروسي؟.. ماذا وجدت فيه من خصائص؟ عرفت سبعينيات القرن الماضي مفارقات كثيرة: هي سنوات الرصاص والنضال الجماهيري والنزال السياسي والجدال الثقافي والسجال الصحافي وسنوات المد الثوري واليساري المتطرف والمد النقدي الداعي إلى علم الأدبية والشعرية الجديدة، البعيدة عن نظرية «الانعكاس» والالتزام الواقعي الاشتراكي والتبشير بكتابة مغايرة ومغامرة.. إلخ. وعلى المستوى الشخصي، كانت سنوات من الصمت الشعري والتأمل النظري والانصراف عن القصيدة إلى أشياء أخرى عديدة «ضرائر» لها (كالجريدة والسياسة) كان منها هذا الاتجاه نحو دراسة اللغة الروسية، أولا، في المركز الثقافي السوفييتي في الرباط، مرة أو أكثر كل أسبوع، طيلة ثلاث سنوات، وهنا، ولد لديّ هذا الميل نحو الترجمة، الهاوية والعاشقة، لكثير من النصوص الشعرية والأدبية الروسية. ثم تعمَّقَ هذا العشق الروسي، أثناء الدراسة في موسكو في نهاية الثمانينيات. نُشِرت كل تلك الترجمات في منابر مشرقية، مثل صحيفة «أخبار الأدب» ومجلة «فكر وأدب»، القاهريتين، وفي منابر مغربية أخرى، ضاع الكثير منها، لغياب التوثيق وآفة الأخطاء المطبعية أو «المضبعية» الشائعة فيها، وهي الصادرة تحت العناوين التالية: «العمق الرمادي» -السيرة الذاتية المبكرة للشاعر الروسي المعاصر يفتوشينكو، عام 5002، عن «دار أزمنة» في عمان، و«أزهار من بستان الشعر العالمي»، عام 0102، عن «بيت الشعر» في المغرب، و«التراجيديات الصغيرة»، لشاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين، عام 1102، عن «دار النهار» في دمشق. وهذا العمل الأخير، وهو ترجمة ودراسة شاملة لمؤلفات بوشكين الدرامية الكاملة، كان، في الأصل، رسالة جامعية لم يكتب لها أن تُناقَش في أحد المعاهد السوفييتية، الذي «أجهزت» عليه سياسة «الرفيق غوربي».
ترى هل تمكّنَ الشعر العربي، وضمنه المغربي، من القبض على ما يغلي داخل إنسان هذه الجغرافيا؟ ولماذا؟ لا، لا أظن أن الشعر، العربي، وبأي لغة أخرى، استطاع التعبير عما يغلي (حتى هنا والآن!) داخل أو خارج الإنسان، لاسيما في هذه الجغرافيا مترامية الأطراف والأشلاء والنيران.. ربما كان «ديوان العرب»، القديم، أصدقَ إنباء من الديوان الحديث عن هذا الإنسان «العربي» اللسان الطويل، الذي يجيد «القبض» في «قشّابة» أي كان، دون أن ينظر إلى «قشابته»، الخرافية، القشيبة، التي ينام ويصحو بها في مدن الخيام وحتى في «عواصم الألم»، العالمية. ثمة أسباب كثيرة تُغيّب الشعر وتُبعده عن ذاكرة التلقي اليومي، منها سوء الفهم، لاسيما في عالم متخلف، ل«الحداثة الشعرية» أو ل«شعرية الحداثة» المتّخَذة شريعة أو ذريعة للخروج بالشعر من دائرة الضوء، الاحتفالية، والدخول به في متاهة الذاتية، المفرطة في كتابة الغرابة وغرابة الكتابة، المراهنة على غيب ومجهول ليسا سوى «قبض ريح»...
هل ما يزال هناك مبرر لوجود الشعر في واقع لا يؤمن إلا بالمادة؟ يستدعي وجود المادي، في حد ذاته، ضرورةً وصيرورة، وجودَ الروحيّ، وهما معا (الروحي في المادي) لا ينفصلان، وربما، لا يزولان، باعتبار المادي /الروحي أزليَّ وأبديَّ الوجود. وكذلك كان وسيبقى الوجود البشري شعريا، في أصل كل الأنواع والإبداع، الطبيعي والعمراني والإنساني والحيواني، على حظ سواء من البقاء أو الفناء، بالمعنى الدارويني. في العمران، موسيقى يعزفها الرخام، وفي الماء والهواء، حياة وكتابة شعرية الخرير والهدير والحفيف والزقزقات، وفي مرح الأطفال وكدح النساء والرجال شعر يروى، وعلى لسان الطير والحجر والشجر والجان والناس، في المآتم والولائم والأعراس، وفي مواسم البذار والحصاد والجني والقطاف وركوب البحر والخيل والجمال في الصحراء، ومن المهد إلى اللحد، لا يخلو جمال الحياة من الشعر، الذي يرى ويُشَمّ ويُسمَع ويُحَسّ ويُلمَس في كل مكان وفي أي زمان.. وفي البدء، كان الشعر خلقا وإبداعا وإمتاعا وإشباعا وكلمة أخرجت الناس من الظلام إلى النور، وسيبقى الشعر جَمالا ونضالا ينقذ العالم كله، لو استجاب لنداء الجمال، الشعري. وإذا لم يجد الشعر غداة غد ما يناضل من أجله، يغدو غناء الإنسان بجمال الطبيعة وحب أخيه الإنسان.
كيف تنظر إلى مستقبل الشعر في المغرب؟ مستقبل الشعر في المغرب مرتبط بمستقبل الشعر في العالم كله، المفتقر إلى القيم الشعرية، عملا ونظرا، والمغتني بنظم الدمار الشامل. وبالتالي، فإن الشعر يعيش، كالمواطن الأجنبي المهاجر الغريب، في منافي كل الأوطان، مهما اختلفت درجات الاغتراب. غير أن شعر «المغرب الذهبي» لم يكتب بعدُ، بمعنى أنه خامّ، لم يُنقَّب عنه في آبارعميقة مهجورة ولم يستخرَج ويُثنتَج ويُتداوَل، أو لم يجمع ويطبع ويوزَّع منه إلا القليل الجميل. يعاني شاعر المغرب (وشاعرته أيضا) ربما أكثر من صديقه الآخر، في بلدان الشرق والغرب، من شتى معاني فعل «غرُب» وأشكال «الغروب»، حتى بات ك«عنقاء مُغْرِبةٍ» يُضرَب به المثل في تعاقب الموت والانبعاث من رماده اليومي، أو كطائر السَّمَنْدَل» الداخل في كل أتون، دون أن تحترق منه «زغبة» أو تنال منه غربة. في المشرق، يبدو كل شيء (الكتاب، اللغة، الثقافة والتراث وهلُمّ شعرا) حاضرا ملء العين واليد والسمع واللسان، بينما عندنا كل شيء حاضر في ذاكرة النسيان...