المنتصرون الوحيدون حتى الآن في الانتفاضات العربية هم الباعة المتجولون، الذين صاروا يفرشون حيثما شاؤوا، لأنهم يعتقدون أنهم الأحق باستغلال ما يجري على اعتبار أن مُشعِل الثورات هو في الأصل بائع متجول. ورغم أن البوعزيزي كان يحمل شهادة عليا واضطر إلى البيع في الشارع، فإن كل بائع جوال في العالم العربي يعتقد نفسه الثائر الأول هذه الأيام. انتفاضات التونسيين نجحت، والمصريون أدركوا ما أرادوه، والليبيون حققوا هدفهم، واليمنيون والسوريون في الطريق؛ لكن رغم ذلك هناك لبس كبير في ما يجري، وخصوصا حول السؤال الكبير: هل ما يجري ثورات حقيقية أم مجرد أوهام ثورات؟ في تونس، ذهب بنعلي وزوجته الرعناء، لكن مقابل ذلك جاء أناس إلى الحكم هم أنفسهم الذين كانوا يحكمون أيام الحبيب بورقيبة، ولا تزال تصدر قرارات غريبة تبين أن الثورة مجرد وهم؛ وعندما وصل رئيس الوزراء التركي إلى تونس لكي يهنئ التونسيين على ثورتهم، أنزلوه في مطار صغير وحجموا استقباله وكأنهم يقولون له: أنت واهم.. هذه ليست ثورة كما تعتقد.. هادي كذبة برْشا بايْنة.. البوعزيزي، الذي فجر انتفاضة التونسيين، انتقلت أسرته للعيش في فيلا جميلة في العاصمة تونس، وغضب جيرانه في سيدي بوزيد وأحرقوا منزله المتواضع، وجلسوا ينتظرون ثورة ثانية تعطي فيلا لكل تونسي. في مصر، نشأت قرابة عشرة أحزاب لتجمع شتات الحزب الوطني الحاكم سابقا، وعندما سيمر الوقت ستأتلف هذه الأحزاب لتشكل حزبا واحدا ليعيد إلى الفساد المصري هيبته. أكيد أن مبارك صار حكاية من الماضي، لكن الفساد ليس كذلك. المصريون، الذين اعتقدوا أنهم نجحوا في ثورتهم، أرادوا الانتقام لمقتل خمسة مصريين قتلتهم إسرائيل غدرا، فاقتحموا سفارتها في القاهرة، لكن تم اعتقال المحتجين وضُربوا بلا هوادة، وكأن السلطة تقول لهم: هل صدقتم، فعلا، أنكم قمتم بثورة حقيقية؟ في مصر، هناك إحساس قوي بين الناس بأن الجيش سرق ثورتهم، وهم نادرا ما يعترفون علنا بذلك، وعوضه يفضلون ترديد شعار «الجيش والشعب إيد واحدة».. إنهم يعرفون جيدا أن العكس هو الصحيح. انتفاضة الليبيين كادت تكون أصدق الثورات العربية، لكن القذافي المعتوه كان مستعدا لذبح الليبيين كلهم، لذلك لم يكن من سبيل سوى الاستعانة بشيطان الحلف الأطلسي؛ أما الحكومات الغربية فإنها كانت تفاوض القذافي وتقصفه في الوقت نفسه، ومن انتصر في النهاية فهي معه. الغرب يعرف أن بترول ليبيا هو الأجود والأغلى، وهو أيضا الأقرب إلى أوربا، لذلك فاوضت هذه الأخيرة وفق هذا المنطق، أي أعطونا بترولكم وسندعم ثورتكم. والغريب أن المفاوضات بين الثوار والحكومات الغربية عندما كانت تتقدم، كان الحلف الأطلسي يقصف بقوة مواقع كتائب القذافي، وعندما كانت تتعثر كان القصف يتوقف. ويتذكر الناس كيف أن ثوار ليبيا كانوا يوما على وشك الوصول إلى طرابلس، قبل أن يتقهقروا بشكل مفاجئ، وكادت فيالق القذافي تصل إلى بنغازي لتذبح الجميع، وسبب ذلك هو أن «الناتو» أوقف ضرباته لمعاقل القذافي لأن المفاوضات لم تسر كما يجب، وتنازلات المجلس الانتقالي لم تكن كبيرة، لذلك أوقف حلف «الناتو» ضرباته إلى أن حصل على مزيد من التنازلات. الثورة في اليمن مشكلة كبيرة لأن بلدان الجوار لا تريد للرئيس اليمني أن يسقط لأنه ليس في مصلحة السعودية وبلدان الخليج أن تصل بقعة الزيت إليها، لذلك تم وأد انتفاضة البحرين في المهد، لكن بالمقابل هناك حماس كبير لسقوط بشار، وهذا الأخير سقط في الفخ، وبدأت المجازر في سوريا تدفع نحو النهاية الحتمية. إنها ربع ثورات.. وربما نصف ثورات.. أو لنقل ثورات إلا ربع..، وهي في كل الأحوال ليست سيئة، بل هي رائعة لأنها جعلت شعوبا ميتة تنهض من قبورها وتقرر الإطاحة بالأصنام التي كانت تعبدها. ربما يأتي المستقبل بثورات كاملة وحقيقية. المهم هو أن الخوف طار.