بغض النظر عن الخلاف في تقييم الحراك الاجتماعي، الذي قادته حركة 20 فبراير في المغرب، فإن هناك استنتاجا يميل إليه الجميع اليوم، وهو أن حالة المغرب مختلفة تماما عن بقية الدول العربية التي عرفت تحولات سياسية كبرى عصفت برأس السلطة فيها. هذا الاختلاف يجد تفسيره عند البعض في الاستثناء المغربي وخصوصية التجربة السياسية وخبرة النظام السياسي المغربي في التعامل مع المعارضة السياسية. كما يجد تفسيره عند البعض الآخر في قدرة النظام السياسي على الاحتواء، فيما يمزج تفسير آخر بين بعض عناصر التفسيرين السابقين، ويضيف إليهما بعدا آخر يلقي بجزء كبير من المسؤولية على القوى السياسية التي خذلت - حسب هذا التفسير- حركة 20 فبراير واصطفت مع التيار المتشدد داخل الدولة في مواجهة التغيير والإصلاح. والحقيقة أن بعض المعطيات، التي تبنتها هذه التفسيرات لا تكاد تخلو من وجاهة، إذ ما من شك في أن أسلوب النظام السياسي المغربي كان مختلفا في التعامل مع الحراك الشعبي بالقياس إلى ما قامت به بعض الأنظمة السياسية العربية في كل من مصر وتونس واليمن. كما أن السلطات السياسية كانت حاضرة مبكرا، عند لحظة التأسيس لحركة 20 فبراير، وعملت بشكل من الأشكال على التأثير في طبيعة هذه الحركة وتركيبتها، وكان حرصها الأكبر على أن تكون مختلفة عن الحركات الشعبية في الوطن العربي، وعلى ألا تتعدى مطالبها السقف الإصلاحي، وهو ما نجحت فيه منذ وقت مبكر. إذ، على الأقل، بدا مؤشر التناقض في مكونات هذه الحركة، وغلبة المكونات الإصلاحية، وعزلة المكونات الراديكالية التي تطالب بتغيير النظام السياسي. ولدى المتابع والمراقب ما يكفي من المؤشرات لدراسة سلوك الدولة وموقفها في تكييف خط الحركة وتوجيه رؤيتها، ويوفر الإعلام الرسمي العشرات من المؤشرات التي تؤكد هذا الفهم. أمامنا ثلاثة عناصر أساسية لا يمكن أن نفصل بعضها عن بعض في تحليل وتقييم مآل الحراك الشعبي في المغرب: الأول هو طبيعة الحركة وتركيبتها وانسجام مكوناتها ورؤيتها وخطها التغييري وأسلوبها في المبادرة الشعبية، فيما الثاني هو تدخل الدولة في توجيه الحراك ومنع أي محاولة لرفع سقفه التغييري وأفقه الاستراتيجي. أما المسار الثالث فهو موقف القوى السياسية والمدنية من هذه الحركة وطريقتها في استثمار الحراك الشعبي الداخلي والتحولات السياسية في الوطن العربي. منطق السياسة يميل إلى أن أي دولة كيفما كانت، ستحاول- إن أرادت الحفاظ على شرعيتها وسلطتها- أن تكون حاضرة لحظة التأسيس للحراك الشعبي للتحكم فيه أو توجيهه أو تحريفه عن مساره، خاصة أن هذا الحراك تأخر بروزه بالنظر إلى الحراك الشعبي في الدول العربية الأخرى. كما أن منطق السياسة يرجح أن تسعى الدولة إلى استقطاب الأحزاب السياسية والمدنية إليها أو على الأقل تحييدها لإضعاف الحراك الشعبي وتقوية مواقعها. هذا ما تقتضيه قواعد السياسة بالنسبة إلى دولة كانت دائما تشكل الفاعل المركزي في الحياة السياسية في البلد. أما بالنسبة إلى القوى السياسية والمدنية، فإن الإمكان المنطقي ينفتح على ثلاثة خيارات أساسية: خيار الانخراط الكلي في الحراك الشعبي، وهذا ما تبنته بعض الأحزاب والقوى السياسية في المغرب وغيرها، وخيار الاصطفاف مع الدولة، وهذا ما انتهجه ما يعرف بالأحزاب الإدارية في المغرب وحزب الدولة في كل من تونس ومصر، وخيار ثالث يراقب الأوضاع عن كثب ويحدد موقفه في ضوء التغيرات المستجدة، وهذا ما تبنته كثير من الأحزاب السياسية في الوطن العربي في مصر واليمن، إذ لم يكن موقفها في البدء مساندا بشكل كامل للحراك، ثم انضمت إليه بعد انتهاء المهلة أو بعد تقييم التطورات. بالنسبة إلى الحالة المغربية، كان هناك موقف رابع تمليه الخصوصية السياسية المغربية. موقف غير منضم إلى الحراك ولا معارض له، بل يفاوض به من أجل الضغط لفرض إصلاحات سياسية في البلاد والتوجه نحو ديمقراطية حقيقية من غير ثورات تسقط الأنظمة، وهو الموقف الذي مثله بشكل كبير حزب العدالة والتنمية . بين الاستنتاج الذي اتفق عليه الجميع، والاختلاف في تفسير دينامية الحراك الشعبي، يمكن القول إن الدولة المغربية نجحت في إنهاء الحراك الشعبي وعزله، وسواء رجع الأمر إلى الجانب الذاتي في حركة 20 فبراير وعدم قدرتها على بلورة رؤية سياسية تصهر مكوناتها جميعا، وعجزها عن فتح قنوات الاتصال مع القوى السياسية والمدنية، أو عاد الأمر إلى خبرة الدولة في احتواء النخب وإضعاف المعارضة، أم كان الأمر يعود إلى موقف القوى السياسية والمدنية من الحراك واصطفاف بعضها ضده، فإن المغرب، اليوم، بعد هذا الحراك الديمقراطي، وبعد التغيرات الكبرى التي شهدها العالم العربي، سيكون أمام سيناريوهين حاسمين سيرجحان النقاش حول القوانين الانتخابية، أحدهما سيناريو العودة إلى التحكم باستصغار الحراك الشعبي والقوى السياسية الوازنة، التي لا تزال صامدة بمواقفها ولا تريد مسايرة الدولة في إصلاحات هامشية لا قيمة لها. وثانيهما سيناريو المضي نحو إصلاحات سياسية حقيقية تعيد إلى الحياة السياسية مصداقيتها. المؤشرات المتوفرة لحد الآن تدفع إلى القول إن الاتجاه التي تدفع إليه جيوب مقاومة الديمقراطية هو العودة إلى منطق التحكم السياسي وإعادة التوتر إلى المشهد السياسي من خلال خوض حملات سياسية وإعلامية مع حزب العدالة والتنمية باعتباره الحزب الذي دخل في «معركة» مع الداخلية حول القوانين الانتخابية، غير أن هذا السيناريو الذي ينطلق من «مسلمة نهاية الحراك الشعبي» ومسلمة «الاستثناء المغربي» ستكون له كلفة كبيرة، أقلها عودة الحراك الشعبي، لكن قد يكون هذه المرة أقوى من سابقه، إذ لن يبقى لحزب العدالة والتنمية والأحزاب السياسية الوازنة الأخرى، إن تقوى خيار التحكم والهيمنة، أي عذر في الاصطفاف إلى جانب الحراك الشعبي ودعمه ومساندته، بل إعادة تأسيسه. خلاصة القول أن المغرب ربما خسر حراكا شعبيا، لكنه لم يخسر بعد معركته نحو الديمقراطية، وفي حالة خسارته هذا الرهان، فإن السلطات السياسية لن تكون لها القدرة على عزل أو تحييد الأحزاب الوازنة، وربما لن تكون لها حتى القدرة على أن تمنع التطلعات من أن ترتاد آفاقا أخرى ربما تكون أكثر جذرية، فالمصداقية إذا ضاعت كلية، لا تؤدي فقط إلى خسران جولة أخرى من السنوات، بل قد يكون ثمنها اللعب والمقامرة باستقرار المغرب السياسي.