للتونسيين أمثال لكل موضوع ومن أطرفها القائل «كانت تشخر زادت بف»، أي أن «الزوجة المصون» لم تكتفِ بالشخير وإنما أصدرت أيضا صوتا منكرا. هذا المثل هو الذي نستعمله عندما نظن أن الأحوال بلغت قمة السوء فإذا بها تزداد سوءا. هذا ما جربه التونسيون منذ أسابيع قليلة؛ فبعد اكتشافهم بدهشةٍ حزبين معروفين يملآن المساحات الإشهارية المخصصة للترويج للهواتف والبرادات والياغورت بصور القائدين العظيمين، وشعارات في منتهى البلادة بل وبلغة سوقية تنكرت للغة العربية، خرج عليهم نكرة أغرق البلاد في حملة غير مسبوقة من إشهار لحزبه المجهول وبالشعارات الركيكة نفسها. في وصف هذه الظاهرة نقرأ في جريدة «الشروق» التونسية يوم 27 غشت2011: «فمنذ أشهر ولأول مرة في تاريخ تونس السياسي، يقوم حزب سياسي بحملة دعائية في الصحف والمجلات والوسائل السمعية البصرية والمعلقات في الشوارع فاجأت المتابعين للشأن العام. المبادرة جاءت من الحزب الديمقراطي التقدمي ليتبعه التكتل من أجل العمل والحريات، ثم يلتحق بالقائمة حزب الاتحاد الوطني الحر الذي يبدو أنه رصد ميزانية ضخمة أثارت التساؤلات، خاصة وأن الحزب حديث عهد بالحياة السياسية، لم يعرف لمؤسسه أي انتماء أو اهتمام بالحياة السياسية في تونس لإقامته الدائمة في الخارج تقريبا، كما أنه لم تعرف له مواقف خاصة ولم يتجرأ على الظهور المباشر للرأي العام عبر وسائل الإعلام. وبدا أن صاحب الحزب ثري جدا بأموال لم يعرف مصدرها وتم توظيفها للدعاية ولمساعدة الفقراء قبل شهرين من الانتخابات.. قائمة أحزاب الإشهار تعززت بالحزب الليبرالي المغاربي، وقد تتوسع إلى أحزاب أخرى». لِنُسمِّ هذه الظاهرة «المقاولة السياسية» وأصحابها المقاولين السياسيين الجدد ولنحاول التعرف على مكوناتها. ثمة في المركز أحزاب تتعامل مع الشأن السياسي كما تتعامل الشركات مع الشأن الاقتصادي، فالساحة السياسية سوق يتبارى للسيطرة عليها من يملك بضاعة لا تهم جودتها ما دام الإشهار قادرا على تسويقها لمستهلك يجب التأثير على غرائزه وعقله الباطني. هكذا، شاهدنا أحد الحزبين المذكورين أعلاه يسلم قيادته تماما لشركات مهنية هي التي كتبت له برنامجه السياسي وهي التي تسوقه وهي التي تسهر على اصطناع اجتماعات شعبية مزيفة، تسخّر لها إمكانيات مادية خيالية، لتعطي الانطباع بقوة الحزب وامتداده الهائل، وذلك وفق تقنيات التعبئة والحشد التي كان حزب السلطة يستعملها. حدِّثْ ولا حرج عن شراء الذمم ودفع رسوم الانخراطات وتسخير ماكينة رهيبة للتواصل عبر الهاتف والأنترنيت مع عامة الناس وحتى كراء شركات تدَّعي سبر الآراء بصفة علمية، وهي لا تفعل سوى رسم الصورة التي يريد الحزب غرسها في أذهان الناس من الخطر الداهم الذي يمثله هذا الحزب ومن عدم وجود ذلك الحزب. بطبيعة الحال، لن نفهم موقع وتصرفات المقاولين السياسيين الجدد إن لم نضعهم في علاقة مع الطرفين الآخرين الضروريين لوجود ظاهرة المقاولة السياسة، وعلى رأسهما الممول الخَفي. سبق أن عَرَّفتُ الثورة بأنها اللحظة التاريخية التي يعيد فيها المجتمع، إن سلما أو حربا، وبعد تراكمات طويلة، إعادة توزيع السلطة والثروة والاعتبار. بديهي أن من يفقدون هذا الثلاثي لا يتبخرون وإنما يناورون إلى أقصى مدى لعرقلة إعادة التوزيع أو حتى منعه. ما يجري اليوم في تونس أمر طبيعي، حيث تناضل قوى الردة التي اكتسبت ثروات هائلة في ظل الدكتاتورية لنقل السلطة إلى الأحزاب التي تضمن لها بقاء الثروة بين أيديها. المضحك المبكي أن رؤساء الشركات السياسية الجديدة لا يجدون للدفاع عن أنفسهم إلا القول إنهم لا يرهنون استقلالهم للممولين وكأن هؤلاء فاعلو خير لا تهمهم إلا مصلحة البلاد وأن اختيارهم لأحزابهم تلك دون غيرها مسألة تتحكم فيها الخيارات العقائدية وليس البحث عن المصالح الخسيسة. والحال أن أبسط الناس يعلم بأن المقاولين الجدد لن يتجاسروا إن وصلوا إلى الحكم على مصالح من أوصلوهم إليه. إن خطورة هذا التوجه على كل المشروع الديمقراطي بديهية، ومن أهم تبعاتها: - جعل رأس المال الوصيَّ الفعلي على اللعبة الديمقراطية في غياب السلطة المضادة الموجودة في الديمقراطيات العريقة (التي تعاني من نفس الظاهرة)، فالصحافة المرئية والمسموعة في تونس تتبع جلها رجال أعمال مشبوهين تعاملوا مع الدكتاتورية وأحيانا هم من بقاياها. - تزييف المشهد السياسي بكل تقنيات الإشهار والتأثير الخفي. - تسميم الأجواء بين أحزاب تناضل بإمكانيات متواضعة لأنها لا تهمّ رأس المال أو لأنها ترفض التعامل معه، وبين أحزاب تنفق دون حساب لاحتلال مواقع ليست لها أهلا. - أخيرا لا آخرا، رفع مستوى احتقار المواطنين لكل الطبقة السياسية وتفاقم الشك فيها برمتها، وهو ما يمهّد لعودة الحلم بالمستبدّ العادل الذي سيخلص البلد من كل هذا الفساد، أي تعبيد الطريق لنوبة جديدة من الدكتاتورية وقد نسي الناس آثامها. يبقى الطرف الثالث والأخير الضروري لوجود المقاولة السياسية، أي المستهلك السياسي، وهو للأسف أي فرد من عامة الشعب. أحسن وصف لهذا الجزء من الثلاثي المدنس هو الذي وجدته على الفيسبوك للسيد عماد محنان: مسألة «رموز الفساد» هي جوهر المشكلة في الواقع السياسي والمالي والإداري في تونس وسائر أقطار الوطن العربي. ولكنها تطرح طرحا خاطئا... فالسعي وراء محاربة الرموز أو الرؤوس ليس هو المدخل الحقيقي لحل المشكلة بصفة حاسمة... القضية في «ثقافة الفساد» التي تغلغلت في التكوين النفسي للمواطن إلى درجة أنها شُرعنت وأصبحت من علامات النظرة الواقعية إلى الحياة. المواطن التونسي -إلى حدّ غير مقبول- بنى صورة عن المسؤول السياسي والإداري معيارها «واصل» (للسلطة) و«يقضي» (أي يسهل الحاجات) وعنده «أكتاف» ( أي ناس نافذون).. إلخ. وهذه المعضلة يجب أن تحارب ابتداء من الثقافة البديلة المأمولة. إذن، من جهةٍ السياسيُّ الفاسد المستعد لكل شيء للوصول إلى السلطة، ومن جهة أخرى «المواطن» المستعد لكل المقايضات الوسخة لمن يضمن له مصالحه الآنية والفردية، كل هذا خارجَ وفَوْقَ مفهوم المصلحة العامة وإن ادعى الطرفان كذبا ونفاقا تمسكهما به. يتبع... منصف المرزوقي