أجمع كل النقاد والصحافيين والمهتمّين على أن ما قدّمتْه القناتان العموميتان في شهر رمضان هو «استخفاف»، عن سبق إصرار، بذوق المشاهد المغربي، لأن ما تم تقديمه يحمل عنوانا عريضا هو الرداءة وعنوانا فرعيا لتخصيص نوع من الرداءة، فما تم تقديمه في السيتكومات مثلا مواد «باهظة التكلفة وفارغة من المضمون»، المعرفي والثقافي والقيمي ولا تمت بِصلة إلى المغرب الذي نحن بصدد صناعته بصعوبة وعنَت، فضلا على الفراغ الجمالي، إذ يتعلق الأمر بحلقات متلاحقة من الثرثرة، ولا أقول بصور يتناوب فيها الممثلون على الصياح والصراخ والانفعالات بطريقة عجائبية تعمل على تسطيح الوعي وتغليف سطوحه بصور نمطية مبتذلة ..تجترّ الرداءة وتُمعن في إترة الضحك المجاني، وبطرق تعوزها المهنيّة، سواء في السيناريوهات أو التصوير أو الإضاءة، بطرق لا تحترم أيا من الثوابت التي نحن في حاجة ماسّة إلى صيانتها في مغرب العقد الثاني من القرن الواحد والعشرون.. فسمعنا، ولا أقول رأينا، لأن ما شاهدناه لا علاقة له بفن السيتكوم، كما ألِفْنا الاستمتاع به في قنوات الأمم ذات الباع الطويل في فن الصورة، أقول سمعنا استهزاء قيم إنسانية وقيم مغربية أصيلة... وفي المقابل، سمعنا مرارا أشكالا متعددة من تحقير قيّم الشهامة في الرجولة والرقة في الأنوثة وإعلاء «قيّم» التدليس والنفاق والكذب... إلخ. ورغم أنني شخصيا من أشد كارهي نظرية المؤامرة، فإنني أؤكد أن ما تم تقديمه من سيتكومات رمضان هو جريمة في حق الذوق الفني المغربي وتشجيع على ما يسميه الأستاذ المساري «الهجرة الأثيرية»... ولا أعرف ماذا يقول حكماء «الهاكا» في شرعية هكذا هجرة وفي مواطَنة من يُحرّض عليها؟! والمذهل في كل هذا، حتى يكتمل مسلسل «استجداء» الضحك، هو تذرع المسؤولين عن شبكة البرامج الرمضانية بارتفاع نسبة مشاهدة بعض المواد، كالسيتكومات خاصة، للتأكيد على «النجاح».. مع أن منطق «ارتفاع نسبة المشاهدة» لا يصمد إطلاقا عندما نتكلم عن قنوات عمومية يُموّلها كل المغاربة من ضرائبهم قسرا، وهذه مشكلة طُرِحت منذ عقدين تقريبا في فرنسا، التي يحب المسؤولون الإعلاميون عندنا الرجوع إليها، وقد أثارت الكثير من النقاش في حينه، بلغت حدّ طرق أسئلة الثوابت في الهوية الوطنية، فلا معنى لاستمرار قناة عمومية يمولها كل المواطنوين بينما هي موجَّهة لفئة معينة، تتفاعل معها وتنفعل بها وتفعل فيها، فكما ليس كل الفرنسيون باريسيين، فإن المغاربة أيضا ليسوا كلهم بيضاويين أو رباطيين، فالمغرب مغاربة ولا معنى لنموذج التقسيمات التي تلصق صفات اجتماعية أو مزاجية أو سلوكية بهذا المغربي أو ذاك، المنتمي إلى هذه المنطقة أو تلك... فإذا افترضنا، جدلا، موضوعية أدوات القياس المعتمَدة، فإن هناك عوامل كثيرة تجعل منطق ارتفاع نسبة المشاهدة غير سليم لتبرير الرداءة التي «قٌصِف» بها المغاربة في رمضان، وأهمها الفراغ الحاصل على مستوى الدراما العربية، تأثرا بالثورات التي تعرفها المنطقة، فكلنا يعرف أن المسلسل السوري «باب الحارة»، مثلا، والذي كان يبث على قناة «إم بي سي» بتزامن مع وجبة الفطور في المغرب في السنة الماضية، كان محطَّ اهتمام من طرف نسبة كبيرة من الجمهور المغربي، وبالتالي فما يفهم من «لجوء» المغاربة إلى قناتيْهم هو تماما ما يفهم من لجوء المسافر أو المريض إلى الإفطار في رمضان، إذ عندما يحل هذا المسافر اضطرارا بدياره أو يصح هذا المريض فإن عليه أن يصوم... واستمرارا في سلسلة المقارنات، فإن تحرير القطاع السمعي –البصري، الذي نهجته فرنسا، فرض على مسؤولي الإعلام العمومي التفكيرَ وفق منطق آخر، يزاوج بين الترفيه والتثقيف والسعي إلى خلق اتجاهات واهتمامات لدى المُشاهد وخلق رأي لديه، فتحولت بعض القنوات العمومية إلى صرح وطني لا يقِلّ قيمة عن صرح «إيفل»، لذلك لا عجب أن نجد في واحدة، على الأقل، من القنوات العمومية الفرنسية كل يوم برامجَ حواريةً عن مستجدات تجري إما في فرنسا أو في محيطها، يُستدعى إليها متخصصون يتكلمون في كل شيء وبدون حواجز.. والمدهش هو أنه تتم برمجةُ هذه البرامج الحوارية في ساعات الذروة.. ونسب متابعتها مرتفعة جدا.. ونسب الدعاية الإشهارية هي الأقلُّ.. كيف نفهم، إذن، عندنا هوس قناتين عموميتين بالصفقات الإشهارية على حساب تنمية واحترام ذوق مشاهد يدفع شهريا فاتورة من يسخرون منه كل سنة؟!...