يواصل الكاتب المغربي، بنسالم حميش، مغامرتَه الروائية بإصرار الأديب الذي يرغب في تغذية السرد الروائي العربي بنسوغ خاصة، هي نسوغ التاريخ مصبوبة في معمار روائي جميل، يجمع بين إحكام خيوط الحبكة والقدرة على الاستبطان الدرامي الملامس لأغوار الشخصية، وبين فتنة المتخيل المنفتح على تخوم الفكر وشعرية اللغة الناهضة من أعماق الذات، لبناء ذلك الفضاء التعبيري المتعدد الأصداء والإيحاءات والمرجعيات. تحكي رواية «هذا الأندلسي»، (دار الآداب /2007) الموزعة على ثلاثة فصول، مغامرة الصوفي عبد الحق بن سبعين منذ فترات الشباب التي صادفت بداية غروب شمس الأندلس، إلى لحظات الشيخوخة التي عاشها مطاردا من قبل السلطان بيبرس بالحجاز. فعلى امتداد أكثر من خمسمائة صفحة، تحكي الرواية على لسان ابن سبعين مسارات التعلم واللوعة والاهتياج والضرب في أرض الجسد والروح، التي خاضها هذا الصوفي ناشدا الحق في ذاته وفي المرأة وفي لحظات الاختلاء وما يطبعها من تأمل وفيض كان يُقيِّد بعضه في رسائله وكتبه، دون أن تغرب عن باله، في لحظات أخرى من حياته، صورة الأندلس الآيلة للسقوط، وصورة الدين الآخذة في التحجر على يد فقهاء السوء. يفتتح ابن سبعين سرده، بتحسر حارق على مخطوطته الضائعة، التي يطلب من الله، في صلواته، أن يمكنه منها، بعد أن يغدق عليها أجمل النعوت وأكثرها إيلاما. وبعد «فاتحة» التحسر واللهفة، يباشر ابن سبعين رحلة البحث عن مخطوطته في تضاعيف أيامه الماضية، عملا بنصيحة عرافة أشارت عليه بذلك. وسوف يقوده البحث إلى خدر النساء، اللواتي سرق قلوبهن بذلك العطر النفاذ، المُتضوِّع من روح تُخبر مسالكها بثبات نحوالمطلق دون أن تنسى نصيبها من الأرض. الغطس في الماضي كان، بالنسبة لابن سبعين، مناسبة للملمة عناصر ونتف دالة من سيرة الحياة، بدءا بتحرره من عسف الأب الذي انشغل بزواجه الجديد، ومرورا بمناوشته لبعض الجارات ومراودته لبنات الهوى من الخراجيات، نزولا إلى تعلقه بفتاة رياض الحاجة أم الخير التي سيظفر بقلبها وجسدها، لكن البحر سيأخذها منه، بعدما ماتت غرقا، لتختفي بصمتها وحزنها وولعها بالعوم، تاركة جرحا في نفس العاشق، سيدفعه للزهد والعزلة. لم يخرج ابن سبعين من عزلته إلا على إثر مرض أمه، ظنا منه أن حالته النفسية تسببت لها في كآبة قاتلة، لكن أخته زينب ستخبره بحبها الشديد للطبيب السيد الخضر، الذي بمجرد ما دخل البيت، وقبَّلها على جبينها حتى استفاقت من غيبوبتها، واستردت عافيتها وحيويتها، مستعيضة بذلك الحب العفيف عن إهمال زوجها، وهوالأمر الذي تفهمه ابن سبعين، وتسامح معه، بالرغم من أنه اندفع في ظهر يوم الغد لملاقاة الخضر في رابطة بضاحية مرسية، للتأكد من سلامة طويته. ثُم مات السيد الخضر على نحوغامض، ولحقت به والدة ابن سبعين شهرين بعد ذلك، ووالده بعد شهر. يئس ابن سبعين من استعادة مخطوطته، ولمقاومة حداده على ضياعها، سيتورط أكثر في طور الطيش والهوى وطلب ملذات نساء مرسية وقرية رقوطة، إلى أن رأى، في إحدى مناماته، أن سارقة مخطوطته قد تكون واحدة من خليلاته المسلمات أوالكتابيات أوالمشركات، لذلك سيُلزم نفسه بالبحث عنها. ازدادت أحوال الأندلس سوءا، وازداد لغط الفقهاء وسعارهم، وشكل مريدوابن سبعين فريقا لحمايته، دون استئذانه. استطاب الأمر، ومضى في طريقه سالكا سبل القلب واللذة، رافضا ألقاب المشيخة والقطبية، مدافعا عن حرية الفكر ضد تزمت الفقهاء، وانتهازية حملة الأقلام. وبالبرغم من بداية شكه في حقيقة مخطوطته، وخوفه من أن تكون مجرد ذريعة لإحياء صلته العشقية بالنساء، فإنه أراد أن يكمل دائرة البحث بزيارة خليلته السابقة قطر الندى. وأمام تكاثر التشنيع عليه، قرر ابن سبعين هجر مرسية إلى سبتة. وبالرغم من بعض الإشارات السلبية، مثل سرقة مطيته، فإن ما غنمه من كتب فلسفية عند ورّاق كان يبغي حرقها، جعله يأمل خيرا من مقامه المغربي، فأجاب عظيم الروم عن أسئلته، وعالج بعض المرضى. لم ينقطع ابن سبعين بسبتة للزهد، وإنما ظل حريصا على متعه، حتى وهويقرأ فصا من فصوص حكم ابن عربي، ليرى في منامه أنه يراقص سمكة الشبُّوط التي جاءته من جنان محيي الدين. باع ابن سبعين بيته برقوطة ومرسية، وأمر مريده عبد العلي بتوزيع المردود على الفقراء والمحتاجين، فيما خرج هوصحبة مريديه في جولة إلى غابة كثيرة الفواكه والحيوانات. وبعد كثير من النشاط، ودعهم ليخلوإلى نفسه، في جولة اجتاز خلالها غابة الجبل، فلمح زاهدا ينطق بكلام الوجد الصوفي، ليختفي في لمح البصر. واصل سيره موثرا الصعود إلى مكان إقامته بالزاوية. وفي صباح اليوم التالي، جاءه شاب مخنث (حمادة) برسالة من مولاته، تعبر فيها عن رغبة في اللقاء به. قرأ ابن سبعين الرسالة كما يقرأ «أمهات الفصوص والنصوص»(159)، وتذكر سمكةالمرسى المرأة التي ربما تكون بلوى سلَّطتها عليه الأقدار. انبهر ابن سبعين بجمال المرأة (فيحاء السبتي)، فتزوجها، وتقوى بها على النوائب، ونسي في حضنها غصة ضياع مخطوطته، موزعا حياته، إلى جانبها، بين الحب والتأليف والانخطاف، كاشفا، في سياق ذلك، مقاومته ثم سقوطه، في إغراء الجارية عبلة، التي سوف يوافق، على تزويجها من مريده خالد الطنجي، مسببا، بذلك، مرض وانتحار الجارية الدميمة حفصة . استأذن ابن سبعين زوجته في الاختلاء، شهر رمضان، بجبل موسى، وهناك عكف على العبادة والقراءة والتأليف. تجهمت أحوال ابن سبعين بعد ذلك، والتمس منه الوالي المريض، ابن خلاص، عندما ذهب لعيادته، أن يخرج من سبتة، ليخفف الوطء عنه، خاصة بعد أن اتهمه السلطان بمشايعته وولائه للحفصيين. وأمام كثرة الشجار والمضايقات، وافق ابن سبعين على الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج، فمكنه الوالي، وقد استعاد عافيته، من هدايا ملك الروم له، وكان من بينها حصان. نزل ابن سبعين ببجاية وأقام بها مؤقتا، فتعرف فيها على الششتري الذي كان يملأ إحدى الحلقات بالأذكار والموشحات. فرح الششتري بذلك اللقاء، وروى له المنامة التي رأى فيها ابن سبعين ينصحه بالزهد للدخول في طريقته. نهضت بين الرجلين مودة عظيمة، وحكيا لبعضهما تفاصيل من حياتهما الماضية، ولما استفتى ابن سبعين صديقه في أمر مخطوطته، أخبره بأنه قد يكون كتبها في الحلم. امتدت إقامة ابن سبعين المكية، حتى تناهت إليه أخبار سقوط الدولة العباسية، ووصول فلول المهاجرين الفارين من بطش المغول. في هذه الأثناء، أشرف ابن سبعين على علاج الأمير أبي نمى، وحرر له رسالة مبايعة الحفصيين. وما هي إلا أيام حتى عمت الفرحة أرجاء مكة، بسبب انتصار فيالق القائدين قطز وبيبرس في عين جالوت، لكن انفراد بيبرس بالحكم، أشاع جوا من القلق، لن يخفف منه إلا لقاء ابن سبعين بصديقه الششتري، الذي أخبره بالأحوال الطيبة لزوجته، وبشوقه للحج برفقته. ثم نصحه بالاقتصاد في الارتباط بشريف مكة، وبالاختباء حتى لا تطوله أيدي الملك الظاهر بيبرس. غير أن شريف مكة أرسل في طلبه، وعرض عليه مساعدته للاجتماع بزوجته فيحاء، لكن حمى قاتلة أصابتها في الطريق، فدفنت ببلدة عيذاب. وبعد العزاء، ما كان من الأمير إلا أن رافق صاحبه المكلوم لزيارة قبرها. بمكة، بعث الأمير إلى ابن سبعين يبلغه بأن الظاهر بيبرس يرغب بالحج، وبأنه يعلم بأمر كاتب رسالة البيعة للحفصيين، ويوصيه لذلك بالحذر واجتناب المخابئ المشهورة. تزوج ابن سبعين بأمامة المصرية، التي كانت تحضر دروسه بمكة، وأخبرها بالأخطار التي تحدق به، إلى أن جاءه حاميه الرئيس حمودة بقفة مليئة بالأقوات ونصحه بلزوم القبوحتى تنتهي فترة الحج. وفي اليوم السابع رأت أمامة قفة متدلية، فيها زاد وبطاقة تخبر ابن سبعين بأن فرسان الملك بيبرس فتشوا عنه المكان، وتطمئنه البطاقة بأن يوم الفرج قريب. عانت أمامة بعدها من ضيق التنفس، فتم إخراجها وإسعافها من قبل سيدتين، واضطر ابن سبعين إلى الصبر في القبوليومين آخرين، حتى لا يتسبب لنفسه وحاميه في مكروه. وبعدها ودع القوم، وقصد مكة من جديد، مستأنفا حياته بها، إلى أن نصحه الأمير أبي نمى بالتخفف والتورية، فقام بتوديعه وداعا أحس أنه الأخير. وبعدها، بعث له الأمير مَن يخبره بأن ابنه حمادة معتقل من قبل مماليك بيبرس القساة، فما كان منه إلا أن حرر ذاته، وحمل عجزه وآلامه ونزيفه، وحلق شعره وقايض نساجا لباسَه الباذخ بجلابية وخرقة تنكر فيها، ويمم صوب الحرم الشريف مجاورا، فأخذته غيبوبة، وجد نفسه فيها يتلقى أعنف الضربات، إلى أن مزق كبير الجند شريان يده اليسرى، فلم ينتبه إلا وهويلفظ أنفاسه الأخيرة.