كانت محاكمة تاريخية.. لا شك في ذلك.. ولكنها كانت جنازة.. بالأحرى عملية تشييع لمرحلة هي الأكثر فسادا.. الأكثر إذلالا ومهانة.. للدولة العربية الأعظم.. كنت أتأمل جمال وعلاء وهما يتحلقان حول سرير والدهما بقفص الاتهام وأنا أفرك عيني غير مصدق ما أراه. أحصن نفسي، من أي تعاطف، بتقمص شخصيات الضحايا الذين سقطوا برصاص رجال الحبيب العادلي، وزير داخلية العهد الديكتاتوري في حلقته الدموية الأخيرة، وذويهم الذين يطلبون العدالة من الجلادين حتى يطمئنوا إلى أن أرواح ضحاياهم، فلذة أكبادهم، لم تذهب سدى. اللحظة التاريخية توثقت، ورموز الطغيان وقفت في قفص الاتهام على مرأى من العالم بأسره، فالمهم الآن هو المحكمة، أما الأحكام فتأتي لاحقا، وإجراءات الوصول إلى هذا الهدف هي تفاصيل، ولذلك لن نتوقف مطلقا عند بعض الهنات، صغيرة كانت أو كبيرة، مثل بعض الفوضى أو التجاوزات أو الاستعراضات، فضخامة الحدث تغفر للكثير من أعراضه الجانبية. الشعب المصري هو البطل وهو الذي صنع هذه المعجزة، ولذلك يجب رد الفضل إليه وحده، فثورته المباركة هي التي أعادت تصحيح التاريخ، بل فصوله الأهم، وسجلت هذه السابقة التي يقف أمامها الجميع مذهولين، ليس في مصر وحدها وإنما في كل دول العالم. هذه النهاية المهينة المذلة يستحقها الرئيس المخلوع وأبناؤه وكل بطانته الفاسدة، بل يستحق ما هو أسوأ منها، لأنه أذل شعبا كريما عزيزا، أذل أمة، أذل عقيدة، عندما احتقر الجميع وتصرف كما لو أنه إله متغطرس، يرفض أن يعترف بوجود شعب أو بكرامة أمة أو طهارة عقيدة. يكفيه عارا أنه في الوقت الذي يحاكمه فيه شعبه بتهم القتل وسفك الدماء وسرقة المال العام، يكرمه الأعداء الإسرائيليون ويسردون مآثره العديدة في خدمتهم ومجازرهم في حق هذه الأمة ومقدساتها وجزء عزيز من خيرة أبنائها. يكفيه عارا أن صديقه بنيامين نتنياهو ومجموعة مجرمي الحرب المحيطين به يريدون تسمية شوارع وميادين تخليدا لذكراه، وتقديرا لخدماته الجليلة التي قدمها إلى دولتهم الغاصبة، بالتواطؤ معهم في العدوان على قطاع غزة وجنوب لبنان، وبيعهم غازَ الشعب المصري رخيصا لكي تمتلئ جيوب نجليه الجشعين وسماسرتهم بالمليارات، بينما هناك خمسون مليونا من أبناء شعبهم البسطاء الطيبين الذين لم يتعرفوا عليهم، ولم يعترفوا بوجودهم أساسا. ليته تجاوب، أي الرئيس المخلوع، مع عرض صديقه الآخر بنيامين بن أليعازر، الوزير الإسرائيلي السابق، ولجأ سياسيا إلى تل أبيب، فهناك مكانه الأنسب، وسط مريديه الحقيقيين، ولكنه للأسف رفض هذا العرض اعتقادا منه، خاطئا، أنه لن يقف في قفص الاتهام مثلما رأيناه اليوم، معتمدا على «إنجازاته» كقائد لسلاح الطيران أثناء حرب العاشر من رمضان أكتوبر عام 1973. نعم، هناك إنجازات ولكنها تبخرت وبسرعة بفعل ما تلاها من سيئات، فالسيئات تجبّ ما قبلها، خاصة إذا كانت خطايا يصعب غفرانها، وعلى رأسها سرقة عرق الشعب، والتفريط في أمنه القومي، والتحالف مع أعداء دينه وأمته وعقيدته. ثم إن الإنجاز، ومهما طالت قامته، لا يعطي صاحبه تفويضا مفتوحا بقتل الأبرياء وتكوين إمبراطورية فساد هي الأضخم في البلد الأفقر عربيا. هذه المحاكمة ليست نهاية المطاف.. بل بدايته.. إنها خطوة أولى لتلبية مطالب الشعب، فرضها بعناده الثوري، واعتصاماته المتواصلة، وهناك مطالب عديدة، قطعا ستتحقق الواحد تلو الآخر، طالما أن هناك من يرفض التنازل عنها مجتمعة أو منفردة. فالشعب فوق الجميع، فما أدراك إذا كان شعبا مفجر ثورة وصانع تاريخ؟ زعيمان عربيان وقفا في قفص الاتهام في السنوات العشر الأخيرة، الأول حسني مبارك الذي خلعه، ثم حاكمه شعبه في محكمة عادلة، والثاني صدام حسين الذي أطاح به عدوان أمريكا، الدولة الأعظم والأقوى في التاريخ، وجرى تقديمه إلى محكمة مزورة تفتقر إلى الحد الأدنى من العدالة، ومنبثقة من رحم الاحتلال ومنفذة لأجنداته المعادية للعروبة والإسلام. كان الراحل صدام حسين يقف في قفص الاتهام متأبطا قرآنه، ومدافعا شرسا عن كرامة أمته وعقيدته، محاطا بصقور حكمه، غير عابئ بالموت، أو خائف من جلاديه الجدد وأسيادهم، بينما يرقد نظيره مبارك ذليلا على سريره منبوذا من شعبه ومن أمته. الأول حظي بتعاطف الغالبية الساحقة من أبناء أمتيه العربية والإسلامية، ونسبة كبيرة من أبناء شعبه، بينما يحظى الثاني بشماتة هؤلاء جميعا، والمعيار كان وسيظل وطنيا صرفا. ذهب الرئيس الراحل صدام حسين إلى المقصلة مرفوع الرأس، ثابتا كالجبل، صلبا كالرمح، مرددا نشيد العروبة، مذكرا بوحدتها وقداسة أرضها وعدالة قضاياها، وفلسطين على رأسها، بينما يذهب حسني مبارك إلى زنزانته في مستشفاه ذليلا كسيرا مع الحد الأدنى من التعاطف.. تعاطف الفاسدين من بقايا دولته. انهار حكم الرئيس مبارك، وانهارت معه إمبراطورية شرم الشيخ، ومعهما كل أحلام الإسرائيليين في موضع قدم في قاهرة المعز، لن يتسللوا بعد اليوم إلى هذا المنتجع الذي تحول إلى وكر للمؤامرات على هذه الأمة، وكل طلائعها الوطنية التي تريد استعادة كرامتها وحريتها وتحريرها من الهيمنتين الأمريكية والإسرائيلية. مثول الرئيس المخلوع في قفص الاتهام، رغم الضغوط العربية والخليجية المتعاطفة للحيلولة دون ذلك، يؤكد أن مصر استعادت وأكدت قرارها المستقل، وأعادت التأكيد مجددا على أن سيادتها ليست للبيع أو الارتهان مثلما حصل طوال السنوات الأربعين الماضية. هنيئا لشعب مصر هذا الإنجاز العظيم، وهنيئا لثورته هذا الانتصار، ولضحاياها هذا القصاص الحضاري العادل من طاغية تصور أنه ونسله فوق كل القوانين والأعراف فاستحق ما لحق به من إهانات وإذلال.