لم يجتمع الفنانون يوما من أجل قضية ما مثلما اجتمعوا هذا الشهر الكريم من أجل تقديم دعايات وإشهارات لمواد استهلاكية شتى، من المطبخ إلى مائدة الطعام إلى فراش النوم إلى مجموعة سكنية ضخمة لا أعرف من أين انبثقت عبقرية مسؤوليها لتلم فيلقا من المبدعين ليغنوا مجدها ونجاحها ويصفقوا لها في وصلة إعلانية، أعتبرها شخصيا مسيئة جدا إلى صورة الفنان المغربي، وأضم إليها أغلب الوصلات الدعائية الأخرى التي يشارك فيها مبدعون لهم تاريخ واسم وصورة، وأحيانا موقف. لم يجتمع فنانونا من أجل قضيتنا الوطنية كما اجتمعوا يغنون في دعاية المجموعة السكنية، ولم نسمع لأغلبهم رأيا أو «حسا» في الحركة السياسية والاجتماعية التي يعرفها الوطن ولا في النقاش حول الدستور، ولا حتى في قضايا تهم الفن والفنانين وتخص فوضى الإنتاج و«الإبداع» التي تعرفها الساحة الفنية منذ عقود، ولم نرَهم يوما يجتمعون ليقفوا ضد كل أشكال التحقير والتهميش والمساومة التي يعيشونها كل لحظة، ولم يصدر عنهم أبدا رد فعل «جماعي» على ما يعيشونه من استغلال من شركات الإنتاج في غياب قانون واضح يحمي كرامتهم ومهنتهم. وإذا استثنينا ردود فعل فردية، فإننا لم نرَهم يوما يقفون ضد سياسة التمييز التي يعيشونها داخل الوطن مقارنة بزملائهم الأجانب، عربا وعجما. لذلك فوجئت، بغبن، وأنا أراهم موزعين على إعلانات المواد الاستهلاكية، يوزعون ابتسامات ساذجة هنا وهناك، ويرددون كلاما تافها، ويغنون سعداء في كليب بئيس حول مجموعة سكنية لو وزعت كل يوم شقة على فنانين ناضلوا وضحوا وقدموا الكثير لهذا البلد ضد الاستعمار وخدمة للوطن لكان ذلك أفضل دعاية يمكن أن تجني منها هذه المجموعة السكنية حب الناس واحترامهم وتضامنهم. لن يغضب مني الفنانون، فهم أول من يسارع إلى تهنئتي كلما كتبت عن وضعية الفن والإبداع وعن الطفيليين والدخلاء والسماسرة، لذلك أتوقع أنهم لن ينزعجوا بقدر ما سيفكرون في دور الفنان الحقيقي في مجتمعه والدور الذي يجب أن يلعبه كل هؤلاء خدمة للمرحلة التي يمر منها البلد، وحتى يكونوا في مستوى انتظارات المشاهد المغربي. لست ضد الإشهار ولا مشاركة الفنان أحيانا في دعاية ما، لكن أن يظهر كل هذا العدد من الفنانين في إعلانات مكثفة بهذا الشكل الصادم، ويشارك فنانون من قيمة عالية وكفاءة وتقدير الجماهير في «كليب» لمجموعة سكنية، فهذا لا يخدم صورتهم ولا قيمتهم ولا يضيف شيئا إلى مسيرتهم إلا ما تقاضوه من دراهم، وأعتقد أن الكثيرين ممن ساهموا في هذه المهزلة هم في غنى عن هذا الأجر. تمنيت أن أرى كل هاته الوجوه مجتمعة في عمل فني يخدم قضية وحدتنا الوطنية والترابية، تمنيت أن أراهم في ملحمة تمجد تاريخ هذا البلد المعطاء، تمنيت أن أراهم جميعا يوما في لقاءات الائتلاف التي ينظمها خدمة للفنانين، أو في ندوة أو عمل خيري كبير تدعمه هذه المجموعات السكنية التي تستطيع أن تمنح الكثير لأطفال القرى وتشيد لهم مدارس القرب، ففي كل الدولِ.. الشركاتُ الكبرى التي تربح الكثير تمنح الكثير للطبقات المحتاجة في مجتمعاتها.. هكذا فقط يمكن أن نفتخر بنجاحات هذه الشركات، ويمكن للفنان أن يفتخر بتقديم دعايات لها.. الغريب أن العارضات والعارضين الذين ألفنا وجوههم في الإشهار أصبحوا، بقدرة قادر، ممثلات وممثلين يقدمون أدوار البطولة بشكل مرتجل وينافسون الممثلين المحترفين الذين اختاروا الظل، وفي هذا الموسم الرمضاني نكتشف أن الفنانين والممثلين وبشكل جماعي أصبحوا مجرد صورة للترويج للمنتوجات الاستهلاكية.. هذا في الوقت الذي نتحدث فيه عن تنظيم المهن وحماية الفن والفنانين وتطوير الأداء والقيمة الإبداعية. إنه، فعلا، حديث ذو شجون.