فوجئت لما وصلني خبر منع الأستاذ محمد الساسي من إلقاء محاضرة في دار الشباب بمدينة تاوريرت يوم الأحد 31 يوليوز 2011، وذلك على الرغم من القيام بجميع الإجراءات القانونية المعمول بها في هذا الشأن. وأيا كانت المبررات التي تقدمها الجهات التي تتحمل مسؤولية المنع، فإن اللحظة التي تعيشها بلادنا اليوم تقتضي من السلطات العمومية ومن مختلف المسؤولين سلوكا وطنيا مترفعا على الحسابات الضيقة والنظرات القصيرة. وليست هذه المرة الأولى التي يطال فيها المنع أنشطة سياسية أو جمعوية أو طرقا للتعبير السلمي عن مواقف أو عن معاناة، فطيلة السنوات الأخيرة شاهدنا العديد من الخروقات. نذكر منها منع عقد ندوات ثقافية أو سياسية عديدة في القاعات العمومية، ومطالبة الجمعيات في طور التأسيس بشروط أو وثائق غير منصوص عليها في القانون، وهي شروط تختلف من منطقة إلى أخرى، والتضييق على أنشطة الجمعيات الجادة، وخصوصا تلك التي لا تسير وفق التوجهات التي تريدها السلطة، إضافة إلى رفض السلطات المحلية تسلم الملف القانوني للجمعيات، أو رفضها تسليم وصل الإيداع المؤقت أو النهائي، وغيرها من الخروقات. كما شهدت الفترات الأخيرة منع السلطات العديد من الأنشطة الاحتجاجية السلمية بطرق متعسفة، وذلك على الرغم من تمتع الوقفات الاحتجاجية بقوة قانونية استنادا إلى قرارات قضائية تقضي بأنها لا تحتاج إلى أي نوع من التصريح أو الإشعار. وهذه الخروقات والتضييقات تزداد حدة في عدد من المناطق النائية، إلى حد أن بعضها يعيش ما يشبه حالة الاستثناء، بما يعرف من إجهاز صريح أو مضمر على العديد من الحقوق والحريات. لكن نشاط مدينة تاوريرت هو أول نشاط ينزل عليه مقصل المنع بعد توقيع جلالة الملك على دخول الدستور الجديد حيز التطبيق، أي أنه منع يأتي ولم يجف بعد مداد دستور ينتظر منه أن يكون بداية حقبة جديدة، وهو الذي ينص في فصله السابع على أن الأحزاب السياسية «تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وأنها تمارس أنشطتها بحرية». والفصل الثاني عشر يقول: «تؤسس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وتمارس أنشطتها بحرية». وإن استنكار هذا المنع الذي طال أحد القيادات السياسية لحزب سياسي ممثل في البرلمان أمر ضروري اليوم، لكنه غير كاف، وليس هو الهدف الأساس من إثارتنا له، فالأمر يتجاوز حادثة معزولة، لوضع اليد على سياسات مدانة مخالفة للدستور والقانون، ومخالفة للتوجهات الديمقراطية التي يجب أن تمضي فيها بلادنا. ومن هنا نؤكد ما يلي: إن التضييق على الأحزاب والقيادات الحزبية والتشويش على أنشطتها التأطيرية والتواصلية يجعل الجهات المسؤولة تسهم في التزهيد من العمل السياسي، وإعطاء الانطباع بأن النضال داخل الأطر والهيئات القانونية غير مجد. وهذا يدفع إما إلى إشاعة ثقافة اليأس أو ثقافة الاحتجاج خارج الأحزاب السياسية، وكلا الأمرين له تداعياته السلبية على المشهد السياسي وعلى مشاركة المواطنين في أوراش الإصلاح. إن هذا النوع من التضييق لا يسير في اتجاه تعزيز الثقة في وجود نقلة حقيقية نحو دولة الحقوق والحريات، دولة الحق والقانون. وإذا كان المواطنون ينتظرون إطلاق إشارات سياسية ملموسة من قبيل الإفراج عن المعتقلين السياسيين والصحافيين وكل من اعتقلوا أو سجنوا بسبب آرائهم، ووضع آليات حقيقية لمحاربة الفساد وتوسيع مجالات الحريات العامة في البلاد، فإننا -مع الأسف- نشاهد من يعمل على تكريس تراجعات من المفروض القطع معها. إن الحريات العامة، ومن أهمها حرية الأحزاب والجمعيات والقيادات السياسية والمدنية في تنظيم الأنشطة العامة وتأطير المواطنين والتعبير عن المواقف والآراء، حقوق لا مجال للمساومة فيها، ولا مجال للحديث عن الديمقراطية والإصلاح السياسي بدونها. وهي حريات يجب أن يتواضع الجميع على احترامها مهما اختلفوا في آرائهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية. إن تطور المنظومة الحقوقية والقانونية، على الرغم من كونه أمرا إيجابيا، غير كاف في تشييد دولة الحقوق والحريات، إذا لم يشهد التنزيل تجاوز الانتهاكات، وإذا لم تتوفر الإرادة السياسية الصادقة لتطبيق الدستور والقانون بالطريقة الأكثر ديمقراطية واحتراما لكرامة الإنسان. والظاهر أن الكثير من المسؤولين لم يستطيعوا أن يقطعوا مع ممارسات من المفروض تجاوزها، بل إنه يمكن التساؤل عن وجود مسؤولين يتمردون على سلطة القانون، ويرفضون الانصياع لمقتضياته. هؤلاء يجب اليوم الضرب على أيديهم، وإيقافهم عند حدهم، وجعل الجميع تحت سلطة القانون، وكل ذلك يتطلب إرادة سياسية واعية بخطورة المرحلة وعزما أكيدا، وبذلك يمكن أن يتعبأ المغاربة لبناء وطنهم بثقة وحماس.