في أزمنة «الربيع العربي»، الحبلى بوعي التغيير وحس المقاومة وروحية التجدد، ثمة انبعاث مدهش لطراز من القصيدة الكلاسيكية، تنهض خصوصيته على ارتباط وثيق بين الموضوع الوطني (بالمعنى الأعمق لمفهوم المواطنة، وليس بمعنى الانتماء الوطني وحده) وبين الأغنية التي رسخت شعبيتها عبر العقود (بسبب من تميّز لحنها وجاذبيتها الموسيقية، وليس بسبب موضوعها الوطني وحده). في سورية، على سبيل المثال، ترافق إقبال الأجيال الفتية على ترديد «حماة الديار»، قصيدة خليل مردم بك (1895 1959) والنشيد الوطني السوري، مع اهتداء إلى سلسلة القِيَم السياسية والإنسانية والأخلاقية التي تختزنها الكلمات، في جانب أول، وانشداد إلى موسيقى الأخوين فليفل، كان مفاجئا من جيل اعتاد على تذوق أغنيات وفيق حبيب وجورج وسوف وعلي الديك وسارية السواس، في جانب ثانٍ. والحال أن التراث الشعري الغنائي العربي الحديث يحفل بعشرات القصائد الوطنية التي خلدها، أولا، نص شعري فصيح وحماسي وأخاذ، قبل أن تستكمل تخليدها أغنية ترددها الحناجر، ضمن الطراز ذاته الذي سبقت الإشارة إليه. ثمة، بالطبع، قصيدة «يا ظلام السجن»، التي كتبها الصحافي السوري نجيب الريس (1898 1952) عندما كان سجينا في قلعة جزيرة أرواد سنة 1922، وقيل إنه لحنها بنفسه وبمشاركة زملائه في السجن. مطلع القصيدة الشهير يبدأ هكذا: «يا ظلام السجن خيّمْ/ إننا نهوى الظلاما/ ليس بعدَ السجن إلا/ فجرُ مجدٍ يتسامى»، وكانت في البدء موجهة ضد الانتداب الفرنسي، ثم تحولت إلى نص أغنية ضد الطغيان بصفة عامة. هنالك، أيضا، «بلاد العرب أوطاني»، قصيدة فخري البارودي (1887 1966) التي يقول مطلعها: «بلاد العُرْب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمن/ إلى مصرَ فتطوان»، وضمن كلماتها، للتذكير، ذلك البيت اللامع: «فلا حدّ يباعدنا/ ولا دين يفرّقنا»، الذي جعلها تتوخى إسقاط الحدود وإلغاء فُرقة الأديان، في زمن عربي شهد اصطخاب المشاعر الشوفينية والتعصّب الديني. ومن الإنصاف التذكير بأن الشاعر البارودي كان سياسيا وضابطا وبرلمانيا وصحافيا، وناضل ضد الانتداب الفرنسي، كما وضع كتابا طليعيا بعنوان «فصل الخطاب بين السفور والحجاب»، صدر سنة 1924. كذلك لا ننسى، نحن السوريين، قصيدة «عروس المجد»، للشاعر عمر أبي ريشة (1910 1990)، التي قد يجهل الكثيرون أن ملحنها هو اللبناني فلمون وهبي، وأنه اختار منها تسعة أبيات، غنتها المطربة الدمشقية سلوى مدحت، احتفاء بعيد الجلاء. مطلع القصيدة يقول: «يا عروس المجد تيهي واسحبي/ في مغانينا ذيول الشهب/ لن تري حفنة رمل فوقها / لم تُعطّر بدما حرّ أبي/ درج البغي عليها حقبةً / وهوى دون بلوغ الأرب». طريف، إلى هذا، أن يلحظ المرء علاقات التفاعل بين الشعر والموسيقى، وهامش التسامح أيضا، في موافقة الشاعر على قيام الملحن بتعديل في النص، كما حين اقترح وهبي تبديل الفعل «تُرضي» إلى «ترضى» في البيت الختامي: «شرف الوثبة أن ترضي العلى/ غلب الواثبُ أم لم يغلبِ». غير أن «موطني» قصيدة إبراهيم طوقان وألحان الأخوين فليفل أيضا، قد تكون الأرسخ في الوجدان العربي الحديث والمعاصر، لأسباب شتى لعل أبرزها أنها كانت أنشودة الانتفاضة الفلسطينية سنوات 1936 1939، ضد الانتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية. ولعل السبب الآخر أن القصيدة اعتمدت تشكيلا وزنيا متنوعا وطليقا، يتخفف كثيرا من تواتر التفاعيل المكرورة، ويمزج ببراعة بين الموشح والعمود الخليلي، ويعتمد أكثر من صيغة ذكية لبناء إيقاع رديف عن طريق التكرار. وقبل انتفاضات العرب، حين كان عماء استبداد الأنظمة، وفساد عائلاتها من الآباء إلى الأمهات إلى الأبناء والبنات، هو السائد، ذهبت مرارة المواطن العربي إلى حدّ قلب كلمات هذه القصيدة الأيقونية، لتصبح هكذا: «موطني موطني / الوبال والضلال والبلاء والرياء / في رباك في رباك / والطغاة والبغاة والدهاء لا الوفاء / في حماك في حماك / ها أراك لا سواك / خانعا مكمما بقادتكْ مسمّما / ها أراك ها أراك / كُبّلت يداك / تصطلي لظاك / موطني موطني». وثمة جمهرة من الأسباب الوجيهة التي تجعل المرء يرى الكلمات الأصلية وقد عادت، اليوم، إلى الشفاه والحناجر: «الجلال والجمال والسناء والبهاء / في رُباكْ». وقبل أيام، خلال مؤتمر صحفي في العاصمة الأردنية عمّان، قال جورج وسّوف: «أنا مع بلدي ورئيسي، وغير ذلك أكون بلا شرف»، وكأنه اعتبر ملايين السوريين، الذين تظاهروا طيلة خمسة أشهر من عمر الانتفاضة، أناسا «بلا شرف». هو حرّ في الوقوف مع رئيسه، غنيّ عن القول، وليهنأ واحدهما بالآخر، لكن الانتفاضة السورية تواصل تأسيس حال الشرف التي تعتق المواطن الحرّ من ذلّ الانحناء عند قدم رامي مخلوف، كما فعل وسّوف مؤخرا، في شريط فيديو صار الآن محطّ زائري ال«يوتيوب». لا يعادله في الشهرة إلا شريط يلتقط حفل الطرب الذي أقامه دريد لحام، في بيته بدمشق، للعقيد الليبي معمّر القذافي، بحضور جمهرة من فناني وفنانات ال«منحبّك». ثمة، رغم أنف وسّوف ولحام، فنّ آخر، لكرامة أخرى، ولهذا يتوفّر آلاف يرددون كل يوم: أبتْ أن تُذلّ النفوس الكرام!