كيف كانت حياة السيدات الأوليات للبيت الأبيض؟ وأي دور لعبنه في المسار السياسي لأزواجهن؟ وكيف كانت علاقتهن بالمجتمع الأمريكي؟ وكيف واكبن نشأة وتطور الولاياتالمتحدةالأمريكية لتصبح أكبر قوة عالمية؟...من مارتا واشنطن إلى ميشيل أوباما حلقات تزيح الستار عن حياة وأسرار السيدات الأوليات بالولاياتالمتحدةالأمريكية على مدار التاريخ. في ماي من عام 1789 وصل إلى نيويورك على ظهر أحد الزوارق، قادما من مونت فيرنون واستقبل في موكب عظيم. لم يكن الرجل سوى جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدةالأمريكية. كانت تمشي وراءه سيدة ممتلئة، لم تكن سوى زوجته مارتا، التي اعتاد الناس على رؤيتها معه أيام الثورة الأمريكية. فمن تكون مارتا التي حملت لقب ليدي واشنطن قبل أن يتجه الأمريكيون إلى إطلاق لقب السيدة الأولى على زوجات رؤسائهم؟ حياة مرفهة ولدت مارتا داندريديج في الثاني من يونيو من عام 1731 بمزرعة «جروف الكستناء» بمقاطعة فرجينيا التي كانت مستعمرة بريطانية لعائلة مزارعة ثرية من أصول إنجليزية وغالية وفرنسية. كانت مارتا كبرى شقيقاتها الأربع وأشقائها الثلاثة، وقيل إن لها شقيقين غير شرعيين (أخت وأخ) أنجبهما والدها من عبيد المزرعة. عاشت مارتا مدللة في مزرعة والدها، وعندما بلغت سن الثامنة عشرة تقدم لخطبتها مزارع ثري اسمه دانييل بارك كاستس، يكبرها بحوالي عقدين، فزفت إليه في 15 ماي عام 1750، وانتقلت للعيش معه في مزرعته ب«مونت فيون» في منزل كبير يسمى البيت الأبيض، يطل على نهر بامنكي بمقاطعة فرجينيا. أنجبت مارتا طفلا أطلقت عليه اسم دانييل، توفي في سنته الثالثة، ثم طفلة أسمتها فرانسيس، توفيت بدورها قبل أن تكمل سنتها الثالثة، ليسكن الحزن قلب مارتا قبل أن تعود الفرحة إليه بعد أن رزقت بطفلين آخرين، هما جون ومارت الملقبة ب«باتسي». في سنة 1757 عاد الحزن ليخيم على مزرعة آل كاستس بعد أن توفي الزوج دانييل لتصير مارتا أرملة ثرية في سن السادسة والعشرين ومحط أنظار كل الرجال الذين بدؤوا يخطبون ودها. زواج العقل المصلحة كان جورج واشنطن عسكريا شابا وابن عائلة مزارعة بمقاطعة فرجينيا. وكان صديقا لمارتا وزوجها، وقد زارها في المرة الأولى لتقديم واجب العزاء، وفي المرة الثانية لتقديم عرض بالزواج بها. لكنه لم يكن الوحيد، إذ تلقت مارتا في نفس التوقيت عرضا آخر بالزواج من مزارع ثري اسمه شارل كارتر. وبعد تفكير مليّ قررت مارتا أن تقبل عرض جورج واشنطن، ليعلانا زوجا وزوجة في حفل أقيم بمزرعتها في 6 يناير 1759. وقد قيل إن زواجهما كان صفقة، زواج عقل ومصلحة، لكنه تحول مع الأيام إلى حب قوي وصامد في وجه المتغيرات. تولى الزوج جورج واشنطن إدارة ممتلكات زوجته، حيث ساهم في توسيع مساحة أراضيها وزيادة عبيد زوجته، وقد حرصا معا على امتلاك العبيد، وإن تفوقت الزوجة واشنطن على زوجها في العدد. لم يرزق جورج من مارتا بأطفال، لكنه أصبح أبا لطفليها جون وباتسي من زوجها الأول. فجعت مارتا بوفاة ابنتها باتسي إثر نوبة صرع وهي في سن المراهقة. لكن أحزانها لم تتوقف عند هذا الحد، إذ فجعت مرة أخرى بوفاة ابنها جون، الذي توفي وهو في عقده الثاني بمرض التيفوئيد أثناء أداء التجنيد العسكري، ووجد السيد والسيدة واشنطن عزاء فقدانهما جون كاستس في الحفيدين إلينور وجورج واشنطن بارك كاستس. عندما أصبح جورج واشنطن القائد الأعلى للجيش القاريِ في الحرب الثورية الأمريكية من 1775 إلى 1783 كانت مارتا تسانده وتجوب البلاد بعربتها مقتفية أثره في الثكنات العسكرية، ترفع من روحه المعنوية مع كل انتصار على القوات الإنجليزية. كتبوا عنها: « قطعت مارتا آلاف الكيلومترات حتى تكون قريبة من زوجها وترفع من روحه المعنوية من أجل الحرية.. كان واضحا أنها مغرمة جدا بزوجها». الليدي واشنطن بعد هزيمة بريطانيا أمام القوات الأمريكية بمساعدة من فرنسا وإسبانيا، اعترفت بريطانيا باستقلال الولاياتالمتحدة وسيادتها على الأراضي الأمريكية الواقعة غرب نهر المسيسيبي. تم التصديق على دستور الولاياتالمتحدة في عام 1788، وعين أول مجلس للشيوخ والنواب، كما عين جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة عام 1789، و انتقل الزوجان واشنطن إلى نيويورك حيث أقاما في بيت أطلق عليه جورج واشنطن اسم «البيت الأبيض» تخليدا لذكرى منزلهما بفرجينيا، وأصبحت مارتا تحمل لقب «الليدي واشنطن» كسيدة أولى وهي في سن الثامنة والخمسين. في أولى حفلة أقامتها كانت مارتا جالسة والسيدات والرجال حولها كأنها ملكة. فيما كان الرئيس واشنطن يقدم الطعام والمشروبات وينتقل بين الضيوف، وبعد نهاية العشاء لم يعرف الناس ماذا يفعلون، هل يخرجون قبل أن تخرج هي؟ أم ينتظرونها حتى تخرج هي كما تفعل الملكات؟ ومن الذي سيعلن نهاية الحفل؟ إلا أن المدعوين فوجئوا ب«الليدي واشنطن» تقول: السيد الرئيس ينام في التاسعة وأنا قبل ذلك بدقائق.. وخرجت فخرجوا وراءها، وهو ما يؤكد بجلاء أن الليدي واشنطن لم تكن اجتماعية إطلاقا. كان بيت الرئيس الذي استأجره جورج واشنطن مفتوحا دائما في وجه الزوار، وكان من واجبات السيدة الأولى أن تتوازن مع النشاط الاجتماعي للرئيس، رغم كرهها لأي أنشطة، فإن كان هو منطلقا تحفظت هي، وإن كان شعبيا تمسكت بالمظهر الملكي في عيون الناس. ذات يوم تعرضت السيدة مارتا واشنطن لمعاكسة أحد الضيوف في حفلة عامة، فخرجت من الحفل وامتطت جوادها وعادت إلى بيتها ليلا، لكنها قبل أن تعود وقفت وراء إحدى الأشجار متوقعة أن يجيء من عاكسها ليعتذر لها، وفعلا تحقق ظنها، وحين اعتذر انهالت عليه ضربا بسوطها. قيل على لسان مارتا: «طبيعي جدا أن ينصف التاريخ زوجي. لقد اختاره التاريخ ليكون على رأس ألأمريكيين، وإذا رأى الأمريكان أن رئيسهم نظيف الملابس سوف يقولون طبيعي أن يكون العظيم نظيفا، ولكنهم لن يذكروا إلا نادرا من هي التي غسلت له ملابسه وقدميه». وقد حرصت مارتا على امتلاك العبيد أكثر من زوجها، الذي كان مثلها في البداية، لكنه عندما كبر في السن قال إن «امتلاك الرقيق أسوأ شيء في الدنيا»، ثم أعتق كل رقيقه. العودة إلى مونت فيون حظيت الليدي واشنطن باحترام الشعب الأمريكي نظرا لمساندتها لزوجها من جهة، وصورتها كجدة حنون لأحفادها وأحفاد أحفادها، من جهة أخرى. وبعد انقضاء مدة ولايته الثانية عام 1797رفض جورج واشنطن أن يكون رئيسا مدى الحياة رغم إلحاح البعض، وشجعته زوجته على قراره هذا، ورأت فيه جادة الصواب، فعاد الاثنان إلى مونت فيون لرعاية شؤون مزرعتهما. توفي جورج واشنطن بعد سنتين من خروجه من البيت الرئاسي، أي في سنة 1799، وحضر مراسيم تشييعه إلى مثواه الأخير العديد من الشخصيات السياسية آنذاك، وكانت مارتا شديدة الحزن على وفاة زوجها، وفي عام 1802 توفيت عن سن الواحدة والسبعين، وووريت الثرى إلى جانب زوجها واشنطن. وفي عام 1903 ظهر أول طابع بريد تذكاري في العالم في أمريكا يحمل صورة امرأة لم تكن سوى مارتا واشنطن.كان هذا الطابع الأول من نوعه لأنه يحمل صورة امرأة من عامة الشعب وليست ملكة، وكان السبب وراء اختيار مارتا وتخليدها في هذا الطابع البريدي هو تقدير أمريكا لجهودها ووقوفها خلف زوجها في كفاحه ضد الإنجليز وانتصاره عليهم ووضع لبنات الدولة الأمريكية.