لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» عندما أصدر الخليفة أبو بكر الصديق أوامره لخالد بن الوليد (القائد العام للجبهة العراقية) بالتحرك بنصف جيشه لإنجاد المسلمين في واقعة اجنادين بفلسطينالمحتلة بعد وصول الجحافل الرومية التي تقدر بمئات الآلاف (200 ألف جندي)، كان على الخليفة تعويض النقص الحاصل في صفوف المسلمين بالجبهة العراقية حتى لا يغزوهم الفرس من جديد، فعيّن المثنى بن حارثة خليفة لخالد بن الوليد، نظرا لقدرته وخبرته العسكرية والواقعية لتلك البلاد كونه من قبيلة ربيعة أجرأ الناس على الفرس. فرصة الفرس الذهبية كان خروج خالد بن الوليد من العراق باتجاه فلسطين فرصة ذهبية للفرس الذين أخذوا يتنفسون الصعداء بعد خروجه، ففرحوا فرحا عظيما وقوّيت عزائمهم ضد المسلمين رغم إحداث الفتن التي ضربت البلاط الفارسي حينها بعد مقتل كسرى «شهربراز» وتولي ابنه «سابور شهربراز» الحكم ثم قتله هو الآخر وتعيين رستم «لبوران» على ملك فارس. لم يغتّر المثنى بن حارثة (القائد الجديد للجبهة العراقية) بنزاعات البلاط الدامية في المدائن، لكنّه كان يشعر دائما بأن جيوش المسلمين (9000 مقاتل فقط) في وضع حرج في تلك الجبهة خاصة وأنهم متناثرون في نقاط متفرقة، الشيء الذي قد يسهل على عدوهم المتربّص بهم الوثوب عليهم والفتك بهم، فهمّ بالتوجّه إلى المدينة حيث الخليفة أبو بكر الصديق ليشرح له الموقف. كان أبو بكر حينها على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلمّا سمع ما جاء به النعمان أمر خليفته عمر بن الخطاب بأن يخطب في الناس ويندبهم للجهاد ضد الفرس. خطبة الفاروق وفي أول يوم لولاية عمر بن الخطاب جمع الناس في المسجد وقام فيهم خطيبا ومعه المثنى بن حارثه، يندّب الناس للجهاد ضد الفرس، فتلكأ الناس لكرهم قتال الفرس المشهورين بالبأس والشدّة ولم يثنهم عن ذلك محاولات المثنى تكذيب تلك المقولة (بؤس الفرس وجلدهم في القتال) وظل الحال على ذلك لعدة أيام والخطاب يندّب الناس للجهاد دون فائدة، وفي أحد أيامه وبينما هو قائم في الناس يخطب فيهم ويندّبهم للجهاد من جديد إذا برجل قد انتصب ووقف من بين الجموع وبادر بالتطوع للجهاد، كان ذلك أبو عبيدة الثقفي(ولد المختار بن أبي عبيدة بن مسعود بمدينة الطائف بالجزيرة العربية في السنة الأولى للهجرة) الذي سرعان ما استجاب له صحابة آخرون كسعيد بن عبيد الأنصاري حتى بلغ عددهم قرابة الألف رجل، فأثر هذا الموقف في عمر قائلا عندما سأله الصحابة عن أمير الجهاد: والله لن أفعل هذه المرة (يقصد اختيار أمير الحرب من أحد الصحابة المقربين كما جرت العادة) يا أصحاب النبي(صلعم) النبي، لا اندّبكم وينتدب غيركم فؤامّركم عليهم، والله لا أؤمّر عليكم إلا أولكم انتدابا، ثم أمّر أبا عبيدة الثقفي كأميرا للجهاد ووصّاه بالوصايا النافعة. خطة الانسحاب انطلق المثنى بن حارثة إلى العراق ليلتحق بجنوده ويرفع من معنوياتهم حاملا معه أخبار المتطوعين للجهاد، ومن شدّة فرحه وابتهاله لم ينتظر حتى وصول المتطوعين بل سار بجيشه إلى الحيرة(5 رجب 13هجرية) لملاقاة الفرس، كان الفرس حينها قد لملموا جراحهم وتناحرهم واتفقوا على توليّة «يزدجرد» للحكم تحت لواء قائده الكبير «رستم» الذي فوّض إليه أهل فارس الأمر لمدة عشر سنوات يكون فيها الحاكم الفعلي لفارس، وعندما علم «رستم» بجيش المسلمين أخذ برسم خطة للقضاء على الوجود الإسلامي في العراق تبتدئ بإشعال الثورات وتأليب رعايا المسلمين في كل مكان دون أن يعلم بأن مثل هذه الخطط لن تكون بعيدة عن ذهن القائد العسكري المثنى بن حارثة الذي أدرك خطورة الموقف، فقرر الانسحاب من كل المناطق الخاضعة للمسلمين وعن العراق كله والانحياز إلى حدود الجزيرة العربية (كان المثنى لا تهمه الأرض بقدر ما تهمه الأرواح نظرا لقلة عدد جيشه) فنفّذ الانسحاب بسرعة دون أن يخسر رجلا واحدا، فتألم رستم جدا من فشل خطته التي رسمها لإبادة المسلمين بفضل الله ثم بذكاء المثنى . أعجبت خطة المثنى بالانسحاب أبي عبيدة الثقفي قائد المتطوعين المسلمين للجهاد الذين وصلوا للتو من المدينة، لكن الجبهة الفارسية طار سهمها بعد أن تمكن المسلمون من الانسحاب، فقام حينها «جابان» (كبير القادة بجيش الفرس الذي كان يحلم دوما بتصفية المسلمين وحكم العراق ) بإقناع رستم بملاحقة المسلمين بصحراء «خافان» ويقوم بتصفيتهم. وافق رستم على طلب «جامان» ووصل الأمر إلى القائد أبي عبيدة عن طريق رسل الاستكشاف الرابضة دائما والذين حملوا له خبر ضخامة جيش الفرس الذي شارف على الوصول إلى منطقة «النمارق»، التي سيعسّكر فيها في انتظار الزحف إليهم، فقرّر أبي عبيدة ومعه المثنى مبادأة الفرس قبل أن يقبلوا وسارع إلى الصدام معه وأن يأخذ الجيش الإسلامي زمام الأمور من يد القائد الفارسي «جابان»، فوقع المسلمون كالصاعقة على جيش الفرس الذين أخذتهم الدهشة والذهول من الهجوم المباغت السريع والخاطف على جيشهم يتهافتون طمعا في الشهادة في سبيل الله، فأخذت صفوف الفرس في التصّدع وحاول «جابان» الانسحاب منه بشكل منتظم، لكن الفوضى التي أصابت جيشه وبصورة كبيرة جعلته يفشل في ذلك ليقع في الأسر جراء محاولته الهرب والفرار بعد أن تخلى عنه حراسه وولّوا الأدبار، ليتم الإفراج عنه مقابل الفدية بعد أن طلب من أبي عبيدة دفعها مقابل عتقه وعدم قتله، فقال حينها أبي عبيدة: «إني أخاف أن أقتله وقد آمنه رجل من المسلمين، فالمسلمون في التواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم»، فقالوا إنه الملك، فقال أبو عبيدة : «لا أغدر». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب